14.45°القدس
14.77°رام الله
13.3°الخليل
17.57°غزة
14.45° القدس
رام الله14.77°
الخليل13.3°
غزة17.57°
الأربعاء 25 ديسمبر 2024
4.57جنيه إسترليني
5.15دينار أردني
0.07جنيه مصري
3.79يورو
3.65دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.57
دينار أردني5.15
جنيه مصري0.07
يورو3.79
دولار أمريكي3.65

خبر: "كـسرة الــولايــــــا"

كان جدي بحق الجبل الذي لا يهزه ريح؛ فقد نشأ يتيمًا وتحمل المسؤولية مبكرًا عن أم أرملة وأخت مريضة بالقلب وعائلة من ست بنات و ثلاثة أولاد، كان جدي أصلب من حجر الصوان، ولكنه مع بناته كان أرق من النسيم. ويوم زوج عمتي الصغرى بكى بحرارة وهو يوصي زوجها بها قبل خروجها من بيته؛ فأبكى من حوله، وبكيت لبكاء جدي؛ فجدي صلب لا يبكي، ولكني كنت أجهل ما معنى أن يزوج أب عطوف محب ابنته وتخرج من حضنه وبيته إلى بيت رجل غريب لا يدري أأحسن انتقائه أم لا. غير أن الأمر لم ينته بزواج البنات فقد ظل يبكي؛ فرحًا لولادة إحداهن، وحزنًا إذا أسقطت، وتنفرج أساريره لرؤيتهن، ويهتم لأمرهن ويحزن لحزنهن، ولم يختلف الأمر مع جدي ابن القرية، وعلى غير ما هو معروف من تبرم الفلاحين بإنجاب الإناث، فقد كان جدي يعتني ببناته لدرجة أثارت غيرة أولاده، وجعلتهم يصرحون بالاعتراض على "المغاوزة" مع البنات. وقد حرص جدي على تدريس بناته، ولو في بلاد بعيدة؛ ليعطيهن سلاحًا في أيديهن _كما كان يقول_ إذا جارت عليهن الأيام من أخ قريب أو رجل بعيد، والحق أن الرجلين زرعا إحسانًا وحصدا برًّا من بناتهن اللواتي أصبحن بنات لبيتين: بيت الأهل وبيت أهل الزوج، فحفظن فضل البيت الأول عليهن، وشرفن آباءهن بحسن تربيتهن بحسن تعاملهن في البيت الثاني. لقد أدركت من حال المجتمع لماذا يقولون: "هم البنات للممات"، فهو ليس تبرمًا بقدر ما هو وصف حالة قد تكون حقيقة واقعة، فلا أحد يكره إنجاب البنات، بل تجد بعض الرجال يصرحون أن من لم ينجب البنات لم يذق طعم الأبوة الحقة، فللبنات رونق وحنان وعاطفية ومكانة في نفس الأم والأب مختلفة تمامًا عن العواطف التي تتولد بإنجاب الولد، ولوجود البنات في البيت أثر وأنس ولمسة ورائحة وحلاوة ونكهة. فالبنت رفيقة أمها وعون لها، وقرة عين أبيها، والله يحنن القلوب عليها، هذا غير الأجر الثابت في الإحسان إليها، فليس هناك نفس سوية تكرههن، ولكن مع ذلك كله لا يمكن الإنكار أن لهن همًّا يؤرق الفكر ويشغل القلب، وبالذات في مجتمعنا الذي انكفأ نحو الجاهلية في معاملة النساء، فالأب والأهل مهمومون إذا لم تتزوج البنت؛ لأنهم يريدون أن يؤمنوها ويسعدوها بأن تكون لها أسرة قبل موتهم، وقد يظلون مهمومين بعد زواجها حتى تظهر خميرة الزوج أبن حلال أم غير ذلك، ويا لتعاسة الأهل إذا كان الزوج غير ذلك!، إذ يشعرون أن كل ما بذلوه لابنتهم من حسن المعاملة هده رجل في يوم وليلة، وهم يحملون الهم مع كل كلمة قاسية ومشكلة، هذا إذا كانت البنت تصرح لأهلها ولا تكبت في نفسها وتراكم في قلبها. بل قد تعود البنت التي خرجت من بيت أبيها وأهلها معززة مكرمة، جوهرة مرفوعة الرأس ومجبورة الخاطر كسيرة تجر جروحها وجروح أولادها لإقامة دائمة أو قصيرة، في حين يعود العقل والإحساس للرجل الذي أخرج زوجته، التي كتب على نفسه ميثاقًا ربانيًّا برعايتها، ودموعها على خدها فلا يملك الأب والأهل إلا أن يكسروا أنفسهم لإصلاح ذات البين. وإذا تعذر الإصلاح فتح الأب والأهل بيوتهم وقلوبهم مرة أخرى وأوسع لابنتهم وأحفادهم، وعلى لسان حالهم قولنا الشعبي: "البيت اللي رباك ما هرب و خلّاك"، وليس هذا حال كل الأهل، بل قد تسوء الأمور في حال كان الأهل يحرصون على سمعتهم أكثر من حرصهم على ابنتهم؛ فيبقونها تعيسة في بيت زوجها حتى لا يقال عنها مطلقة، وبعض الأهل لا تسعفهم الحالة المادية أن يقوموا بحق ابنتهم وأولادها. ولا يتوقف الهم؛ فحتى لو كانت البنت سعيدة في زواجها تظل المتابعة من الآباء والأهل الصالحين حتى تنجب، وتقر أعينهم بأولادها، ويستقر زواجها وتقوى عراه، ويتابعون: هل تجد ما يكفيها؟، هل علاقتها بأهل زوجها وعلاقتهم بها طيبة؟، ولا يهدأ البال بسوى ملاحظة السعادة والاطمئنان في حياة البنات مع مرور السنين. لا أحد يكره إنجاب البنات، ولا أحد يكره أن يفرح ببناته ويزوجهن ويرى أحفاده، فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يفرح بالحسن والحسين فرحه بفاطمة، وكان أيضًا يهتم لأمرها ويصلح ويتوسط بينها وبين زوجها عند الخصام، ويذهب وراءه إلى المسجد ليصالحه، وكان نعم الوسيط الذي لا يرد، ونعم الزوج كان سيدنا علي لا يطيل في الخصام ويحفظ الود، ونعم الزوجة الودود العؤود فاطمة الزهراء. لقد علم سيدنا محمد أن سيأتي ظلمة قساة القلوب لا يعرفون لابنة حواء قدرها وفضلها؛ فقال في الحديث: "إذا ولدت الجارية بعث الله ملكًا يزف البشرى زفًّا، يقول: (ضعيفة خرجت من ضعيفة، القيم عليك مُعان إلى يوم القيامة)"، والقوامة هنا ليست قوامة الإنفاق، ولكنها قوامة المشاعر التي تحتاج إلى سعة في الصدر، وكرم في الأخلاق، جعلت من الفاروق الصارم يسمع وهو ساكت صراخ زوجته وقد أثقلها التعب، ويتحمل ويذكر لها فضلها: "تطبخ طعامي، وتغسل ثوبي، وتطحن دقيقي، وتربي أولادي، وتقضي حاجتي"، ثم يقول: "أفلا أصبر عليها في بعض أمرها؟!" يستهزئ المجتمع ببعض الأهل الذين يشددون على الأخلاق والكفاءة في انتقاء الأزواج لبناتهم، ويقولون: "فليخللها أبوها (نسبة إلى المخلل) عنده فلن تجد من يتزوجها!"، والبقاء في بيت الأهل بعزة وكرامة خير من أن يجور على المرأة رجل غريب أو قريب استحل قلبها وكرامتها وحياتها بعقد لم يقدر قيمته عند الله الذي جعل من الزواج آية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. لقد اشتكت الدكتورة هبة رؤوف عزت في مقال ذات يوم فقالت: "لم يستوصوا بالنساء خيرًا يا رسول الله!". فطوبى لكل رجل أبًا كان أو أخًا أو زوجًا عرف كيف يعامل القوارير دون أن يكسرهن؛ فذلك له عند الله خير من البكاء من خشية الله، فقد جاء في الأثر: "من فرح أنثى كان كمن بكى من خشية الله". ويا لخسران من استقوى على امرأة لم تجد وليًّا يقف أمامه؛ فسلمت أمرها من قبل ومن بعد إلى الله وهو نعم المولى ونعم النصير!