من المدرج الجامعي إلى سدة الرئاسة في قصر قرطاج، أصبح رئيس تونس الجديد، رجل القانون الدستوري المتقاعد، قيس سعيّد، ظاهرة متفردة في الديمقراطية الناشئة.
وحتى وقت قريب لا أحد كان يضع في حسبانه صعود سعيّد (61 عاماً)، عديم الخبرة السياسية، على حساب مرشحين من العيار الثقيل، إلى الدور الثاني للانتخابات الرئاسية، لكنه وفي غفلة من منافسيه الـ26 تصدَّر الدور الأول، ثم اكتسح في الإعادة منافسه نبيل القروي المتمرس في الإشهار والإعلام.
ومع هذه المفاجأة الكبيرة التي حققها وأفراح الشارع التونسي بهذا الفوز، فإن تحديات كبيرة وصعوبات جمة تواجه الرئيس التونسي الجديد، وسط مشهد سياسي مرتبك وظروف اقتصادية صعبة تمر بها البلاد، ووسط مخاوف من أن يفشل سعيّد في مواجهة التحديات التي تقف أمامه.
قيس سعيّد إلى الحُكم
سعيّد حقق فوزاً ساحقاً على منافسه نبيل القروي بنسبة تصويت قياسية بلغت 72.71% مقابل 27.29%، وفق النتائج الرسمية التي أعلنتها الهيئة المستقلة للانتخابات بتونس في 13 أكتوبر 2019، ليكتسب شرعية شعبية لم يسبقه إليها أي رئيس تونسي.
هذا الفوز الكبير سبقه سعيّد بتحقيق مفاجأة في الدور الأول من الانتخابات، بتغلُّبه على قادة الأحزاب الكبيرة في تونس، بعدما احتل المركز الأول بنسبة 18.4٪.
ولُقّب سعيّد بـ"مرشح الشباب"، الذين تطوعوا في حملات انتخابية مجانية لمصلحته بعد أن رفض التمويل الحكومي لحملته، وسعى هؤلاء الشباب بإمكانات محدودة -مقارنة بحملات بقية المرشحين- إلى فرض أصواتهم، ساعين لخلق ديناميكية سياسية جديدة.
وكان من ضمن أسباب الجدل الذي أثاره سعيّد، منذ إعلان ترشُّحه للرئاسة، شحّ المعلومات عنه وقربه من شخصيات مختلفة حدّ التناقض، ويُنظر إليه على أنه المرشح "المستقيم والنظيف" الذي يقطن منزلاً بسيطاً في حيّ شعبي.
من هو سعيّد؟
وُلد سعيد في 22 فبراير 1958 بتونس، وحصل على شهادة الدراسات المعمقة في القانون الدولي العام من كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس، وهو حاصل أيضاً على دبلوم الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري، ودبلوم المعهد الدولي للقانون الإنساني في "سان ريمو" الإيطالية.
بدأ حياته المهنية في عام 1986 مدرساً بكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية والسياسية في مدينة سوسة (شرق)، قبل أن ينتقل في عام 1999 للتدريس بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس العاصمة.
تقلد بين عامي 1989 و1990 مهام مقرر اللجنتين الخاصتين لدى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، من أجل الإعداد لتعديل مشروع ميثاق الجامعة، ومشروع النظام الأساسي لمحكمة العدل العربية.
كما عمل سعيّد، وهو متزوج وأب لثلاثة أبناء، خبيراً متعاوناً مع المعهد العربي لحقوق الإنسان من 1993 إلى 1995، وحصل في 1997 على عضوية المجلس العلمي وعضوية مجلس إدارة الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري، وهو أيضاً رئيس مركز تونس للقانون الدستوري من أجل الديمقراطية (مستقل).
انتصار للثورة
الناشطة والإعلامية عايدة بن عمر رأت أن إيصال قيس سعيّد إلى قرطاج "انتصار مهمّ ينبغي ألا يتحوّل إلى غاية في حدّ ذاته، بل يجب أن يكون وسيلة وهدفاً مرحلياً وجولة في معركة طويلة عنوانها مقاومة منظومة الوصاية والفساد من أجل التحرّر والعدل والنّهوض".
وأكدت أن الانتخابات مرت بمرحلتين؛ الأولى كانت فيها القضية "خليطاً من رفض للمنظومة، ورفض للعمليّة السياسية التي قامت على التوافق، وعقاب للطبقة السياسية على فشلها وخذلانها للشعب وعلى إهماله والتعالي عليه وعلى الاستخفاف به، وعدم الوضوح والصدق معه".
وأشارت، في حديثها لـ"الخليج أونلاين"، إلى أن الشعب التونسي بحث خلال المرحلة الأولى عن بديل لكلّ ذلك "فوجده في شخص قيس سعيّد؛ شخص بعيد (أو الأبعد) عن المنظومة التي حكمت قبل الثورة والمنظومة التي حكمت بعدها، ويمثّل بصدقه وبساطته وتواضعه وزهده في المناصب نقيض السياسيين الذين تصدّروا المشهد منذ قيام الثورة".
وأضافت: "في الدور الثاني، أضيف عامل الكرامة، فالشعب مستنفر لأنّه شعر أن كرامته تمسّ، وشعر أنّ جهة ما (وهي التي نسمّيها منظومة الوصاية والفساد، بجناحيها الخارجي والداخلي، أي السفارات والمافيات) تريد أن تفرض عليه شخصاً هو الرمز الأوضح للوصاية والفساد، فعندما قدّمت المنظومة أسوأ ما لديها، وأرادت أن تفرضه بأسوأ الطرق الممكنة (لوبيينغ، شراء أصوات، استغلال فقر الناس)، استفزّت الشعب فاستنفر بكلّ فئاته ليقاوم ويتصدّى ويرفض ويتحدّى".
وأكدت أن التحدّي الأكبر أمام قيس سعيّد هو "النّجاح في الانتقال من مُرَشَّح غير مُجرَّب، زادُه الصدق والبساطة، إلى رئيس في حقل ألغام، بصلاحيات محدودة، ومع حكومة وبرلمان تعاونهما غير مضمون".
وتابعت: "في تونس نحن غيرنا رئيساً ولم نغير نظاماً عمره ستون سنة كان قادته من التلاميذ النجباء للمستعمر الفرنسي، انتصرنا صحيح ولكننا لم نحرر تونس، التحرير معركة طويلة الأمد، لعل فوز قيس سعيد يعتبر الخطوة الأولى لخوض هذه المعركة".
تحديات سياسية!
ويرى كثيرون أن الرئيس المنتخب غامض، ولا يُعرف له انتماء سياسي، وحتى حملته الانتخابية لم تكن حملة كلاسيكية، فلم يقدم وعوداً أو برنامجاً واضحاً، بل كان يجوب المقاهي الشعبية ينصت إلى الشباب خاصة، ويَعِدهم بأن يوفر الآليات القانونية، لا غير، لتحقيق مطالبهم وبرامجهم التي يريدون.
وأول خطوة يُفترض أن يخطوها الرئيس الجديد توفير دعم سياسي وكتلة نيابية للوقوف وراءه، لكنها لا تبدو بتلك البساطة، في ظل برلمان تونسي لم تتشكل صورته بعد، في انتظار أن تخرج الحكومة الجديدة بقيادة حركة النهضة صاحبة الأغلبية النسبية، والتي بدورها تبحث عن تحالفات تحقق بها أغلبية الـ50+1"، أي ما يعادل 109 مقاعد من أصل 217، لا تملك منها "النهضة" سوى 52 مقعداً.
ويمتلك سعيّد دعماً من تيارات سياسية مختلفة داخل البرلمان، أبرزها القوى الخمس: حركة النهضة، والتيار الديمقراطي، وائتلاف الكرامة، وحركة الشعب، وحتى قوائم وشخصيات مستقلة، حيث أعلنت دعمها لسعيّد، ودعت أنصارها إلى التصويت له، مقابل منافسه نبيل القروي رئيس حزب "قلب تونس" الحاصل على المرتبة الثانية داخل البرلمان.
لكن يبقى السؤال المطروح حول قدرة قيس سعيّد على تجميع هذه الحساسيات السياسية المختلفة، التي تتصارع وتختلف في كثير من المواقف والتوجهات، رغم أنها اتفقت على دعمه، فهل يقدر على توحيدها لتكون كتلة واحدة تصوت بالإيجاب على مقترحاته، لا سيما أنها أعلنت استعدادها التام للعمل معه؟
ضبابية صلاحيات الرئيس
من جانبه يرى الناشط السياسي محمد هدية أن أولى الصعوبات التي ستواجه الرئيس التونسي هي "الضبابية التي تتعلق بصلاحياته في الدستور التونسي الجديد، وهو ما اختلف حوله العديد من خبراء القانون الدستوري".
ويتحدث هدية حول عدم وجود حزام سياسي في محيط الرئيس، وقال في حديثه لـ"الخليج أونلاين"، إن الأحزاب السياسية التي قد تدعم سعيد ربما تعمل على "احتوائه أو الالتفاف عليه".
ويرى أن من أهم مقومات نجاح رئيس الجمهورية في تونس"مدى علاقته برئيس الحكومة"، مدللاً على ذلك بقوله: "السبسي مثلاً شهدت علاقته برئيس الحكومة حالة من التوتر، وحتى الفتور، أثرت على الوضع العام في تونس، وهذا ما يجعلنا نؤكد أن مدى تفاهم رأسَي السلطة في تونس هو عامل أساسي ومهم في نجاح كليهما، وللوضع العام بالبلاد بصفة عامة".
ويؤكد، في سياق حديثه، أن بإمكان سعيّد النجاح لو توفرت له الإمكانيات في بلاده، مضيفاً: "لن يكون فقط رئيساً ناجحاً لتونس، بل هو مشروع لزعيم عربي وإقليمي".
تحديات اقتصادية وأمنية
يأتي الملف الاقتصادي في مقدمة التحديات أيضاً التي تنتظر رئيس تونس، خاصة بعد ثماني سنوات على ثورة الياسمين، التي أصبح كثير من التونسيين بعدها يشعرون بخيبة أمل لفشل حكومات ائتلافية متعاقبة في معالجة المشاكل الاقتصادية، وفي مقدمتها البطالة المزمنة وارتفاع التضخم ومطالب المانحين الأجانب بتطبيق إجراءات خفض للإنفاق.
كما أن استشراء الفساد بتونس، في الفترة الأخيرة، يتطلب محاربة قوية وعلى عدة مستويات، وهو ما وعد به قيس خلال تصريحاته إبان حملته الانتخابية.
وضمن أبرز التحديات يأتي الملف الأمني، خاصة فيما يتعلق بملف الاغتيالات، حيث يرى تونسيون أن سعيّد سيكون من الصعب عليه فتح الملفات الأمنية، خاصة في وزارة الداخلية والمؤسسة العسكرية.
وتعود قضية الاغتيالات إلى عام 2013، حيث اغتال مسلحون متطرفون الزعيم اليساري ورئيس حزب الوطنيين الديمقراطيين شكري بلعيد، وسط العاصمة التونسية، كما اغتيل النائب اليساري محمد براهمي في يوليو من العام نفسه.
مشاكل البرلمان وغياب الطرف المساند
يقول الصحفي التونسي شمس الدين النقاز، إن الرئيس التونسي الجديد سيواجه مشاكل سياسية كبيرة، وفي مقدمتها وجود انقسام حاد في البرلمان المقبل.
ويؤكد النقاز أن مشاكل البرلمان ستنعكس على رئاسته، خصوصاً أن مشاريع القوانين التي يعتزم إصدارها يجب أن تمر على البرلمان، مضيفاً: "هذا التعارض سيكون لأن قيس سعيّد ليس لديه أي حزام برلماني أو أي حزب يمثله داخل البرلمان".
وعن الصعوبات التي سيواجهها بالقصر الرئاسي، يقول النقاز في حديثه لـ"الخليج أونلاين"، إن قيس سعيّد سيعاني في المرحلة الأولى، من خلال تشكيل الديوان الرئاسي ومجموعة العمل المتكاملة والمتأقلمة فيما بينها من الكفاءات كمستشارين داخل القصر الرئاسي، بسبب "عدم وقوف أي طرفٍ وراءه، وعدم ارتباطه بعلاقات سياسية".
وفيما يتعلق بالجانب الاقتصادي يؤكد الصحفي التونسي أن عديداً من الملفات الشائكة تنتظر الرئيس المنتخب، خصوصاً مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد.
وأضاف: "الرجل ليس له أي برنامج اقتصادي واضح قادر على تغيير أو تحقيق ما وعد به التونسيين من الكرامة والعدل والعيش الكريم".
وليست المشاكل والخلافات الداخلية وحدها التي قد تواجه قيس، فالسياسة الخارجية ستكون أحد تحدياته، خصوصاً أنه "لا يملك أي تاريخ أو ماضٍ سياسي، ولا خبرة دبلوماسية لديه، وهو ما سيمثل تحدياً وصعوبات بالغة في تكوين وبلورة ونسج علاقات متينة بين تونس وعديد من الدول العربية والأجنبية، خاصة أن الرئيس هو المسؤول الأول عن العلاقات الخارجية"، وفقاً للصحفي التونسي النقاز.