نشرت مجلة "وايرد" الأمريكية مقال رأي لمهندسة الطب الحيوي الحاصلة على درجة الدكتوراه في أنماط الإصابات والصدمة بعد الانفجار، رايتشل لانس، قدمت فيه تفسيرا للانفجار الذي وقع في بيروت من وجهة نظر فيزيائية.
وقالت الكاتبة، في مقال إنه بعد الانفجار الهائل الذي شهدته بيروت في الرابع من آب/ أغسطس، ينتظر العالم لمعرفة حصيلة الوفيات والإصابات والدمار النهائية. لكنه يمتلك بالفعل فكرة مسبقة عما يمكن توقعه من هذه الحادثة؛ نظرا لأن انفجارات مماثلة حدثت في السابق.
وذكرت الكاتبة أنه نادرا ما تكون الانفجارات العادية بهذا الحجم، ولكن تنطبق عليها مبادئ الفيزياء والكيمياء ذاتها. فعلى سبيل المثال، أدى انفجار عرضي لستة ملايين رطل من مزيج من المواد شديدة الانفجار في ميناء هاليفاكس في سنة 1917 إلى خلق مساحة كبيرة من الحطام، الذي يعد أكبر انفجار غير نووي على الإطلاق من صنع البشرية حتى الآن.
بينما نتعلم المزيد عن الانفجار الذي وقع في بيروت، الذي يمكن أن يكسر اللقب الذي امتلكه انفجار ميناء هاليفاكس، تقدم قصة هاليفاكس ما من المتوقع معرفته عن الصدمة التي تلت الحادثة، وتفسر مقاطع الفيديو الحديثة للهواتف المحمولة، إلى جانب التفسير الفيزيائي للانفجار الذي استخلصه العلماء في القرن الماضي، لماذا حدثت أنماط الصدمات هذه بتلك الطريقة.
الكيمياء السريعة لنترات الأمونيوم
أوضحت الكاتبة أن كل حريق هو نتاج إعادة ترتيب للجزيئات، ويعد الانفجار في الأساس حريقا شُحن تربينيا ليصبح هيجانا مفرط الطاقة. تقوم التركيبات غير المستقرة بتبادل الذرات بين بعضها البعض، حتى تستقر كل تركيبة في وضع أكثر هدوءا وأقل طاقة، مثل الصخور عندما تصل إلى أسفل التل. لكن طاقة هذه التركيبات الزائدة تُستخدم في شيء ما.
في نار المخيم، حيث تصبح التفاعلات الكيميائية سهلة بفضل الأكسجين الموجود في الهواء وحده، يجري إطلاق الطاقة ببطء في شكل مستويات كافية من الحرارة والضوء. ولكن في حالة حدوث انفجار، يضاعف الأكسجين من سرعة عملية التفاعل بشكل مبالغ فيه.
وأوردت الكاتبة أن التقارير الحديثة تفيد بأن المبنى الذي تسبب في الانفجار ربما كان يخزن كميات كبيرة من نترات الأمونيوم، وهي مادة كيميائية قابلة للاشتعال لها مظاهر غير ضارة نسبيا مثل السماد ولكن وقعت تجربتها أيضا كوقود للصواريخ. ويمثل الأكسجين العامل المتسبب في تفعيل خاصية الانفجار المميتة لنترات الأمونيوم، وبالنظر إلى حدوث 47 انفجارا هائلا معروفا وعرضيا لنترات الأمونيوم في القرن الماضي، فإن هذه الصفة لا يمكن إنكارها.
وأوضحت الكاتبة أن "الأمونيوم" عبارة عن ذرة نيتروجين متصلة بأربع ذرات هيدروجين (NH4+)، بينما يمثل "النترات" ذرة نيتروجين متصلة بثلاث ذرات أكسجين (NO3-). في ظل الظروف العادية، تساهم الشحنة الموجبة الخاصة بالأمونيوم والشحنة السالبة الخاصة بالنترات في انجذاب الجزيئين ليتصلا ببعضهما البعض دون إحداث أي ضرر، ولكن عندما تضاف شرارة تدرك الجزيئات أن ذراتها يمكن أن تصبح أكثر سرعة وتتحول إلى شيء جديد تماما.
عندما يقع تصنيع نترات الأمونيوم كسماد، يقع خلطها بمواد كيميائية أخرى عادة ما تمنع حدوث هذا التفاعل، على الرغم من أن انفجار معمل السماد في ويست بتكساس سنة 2013 أثبت أن هذه المواد الكيميائية ليست ناجحة دائما. تشير التقارير الأولى الصادرة من بيروت إلى أن الأسمدة ربما كانت المتسبب في الانفجار مرة أخرى.
وقالت الكاتبة إن تفكيك الانفعال الكيميائي لنترات الأمونيوم يمكن من الإجابة على الكثير من الأسئلة العامة حول مقاطع الفيديو، بما في ذلك مصدر اللون الأحمر للدخان، وهو من أحد النواتج الثانوية للنترات الذي يدعى ثاني أكسيد النيتروجين. وتنتج عن العديد من المواد المتفجرة ألوان أثناء الانفجار على نحو يشير إلى تركيبها الكيميائي. ويعد ثاني أكسيد النيتروجين العامل الذي يجعل انفجار نترات الأمونيوم يتخذ لونا يشبه الدم. وفي حين أن انفجارا صغيرا سينتج عنه دخان برتقالي اللون، فإن انفجارا هائلا مثل انفجار بيروت إلى جانب ضوء الشمس سيكسب الدخان لونا داكنا أكثر.
ونقلت الكاتبة عن براد ووتيلاك، وهو فني مختص في القنابل وأخصائي متفجرات معتمد لدى مكتب الكحول والتبغ والأسلحة النارية والمتفجرات، أنه عندما تكون انبعاثات الدخان كثيفة جدا، فإنها تبدأ في امتصاص ضوء الشمس الذي يؤدي انكساره إلى تعتيم الألوان الطبيعية التي ينتجها أي انفجار.
بالنسبة للمتفجرات التي تُحدث انفجارا نقيا، على غرار المتفجرات التي تستخدم في المجال العسكري، فهي تنتج دخانا يبدو نقيا فيتخذ لونا أبيض ناصعا يشبه الثلج أو أبيض باهتا وأحيانا رماديا باهتا. لكن الانفجارات العرضية أقل نقاء وتنتج الرماد وجسيمات أخرى ومواد ملوثة متفحمة سوداء. تتصاعد هذه المادة اللزجة السوداء في السماء جنبا إلى جنب مع المنتجات الثانوية الأخرى، لتلوين سحابات الدخان، وتصبح مثل بقايا فحم نيران المخيم المتروكة بعد الاحتراق. وحسب خبير الانفجار، تظهر بعض مقاطع الفيديو سحابة سوداء وحمراء تعلو رصيف بيروت وسببها "نترات الأمونيوم".
ليست موجة صدمية
تُظهر مقاطع الفيديو أعمدة دخان تتخذ شكلا نصف كروي موحدا مثيرا للقلق تتصاعد خارج موقع الانفجار في شكل قبة من البخار الخانق الذي يندفع نحو كل شخص يصور، ويظهر وصول الدخان من خلال صوت واضح في الفيديوهات يرافقه اهتزاز. يشكل رد الفعل هذا موجة الضغط الناتجة عن الانفجار.
ولكنها ليست موجة صدمية بل موجة ناتجة عن الضغط، وهذا الاختلاف الرئيسي يؤثر على عدد الضحايا المتوقعين. تنتقل موجة الضغط من نطاق صفر إلى أقصى مستوى في غضون صفر من الثانية. ويشبه تأثيرها الاصطدام بالأرض بعد التدحرج على جرف شديد الانحدار. أما قوة الموجة الصدمية فتشبه الاصطدام بالأرض بعد السقوط من الهواء وبلوغ السرعة القصوى. تولد المواد شديدة الانفجار موجات صدمية بينما تنتج المتفجرات البطيئة على غرار نترات الأمونيوم موجات ضغط لها شكل مميز، وهي تحدث في فترة زمنية يزداد الضغط خلالها بشكل تدريجي.
وأوردت الكاتبة أن الصدمات تنتقل على نحو أسرع من سرعة الصوت، وتسبب ضررا أكبر بكثير من موجات الضغط، التي كانت أبطأ من سرعة الصوت البالغة 343 مترا في الثانية، لكنها مع ذلك تسببت في تدمير ورعب وارتباك وزجاج محطّم وتلف واجهات البنايات، والارتباك بالنسبة للمشاهدين، حيث تعرضت آذانهم لتقلبات ضغط سريعة. وعادة، يمكن للموجة الصدمية أن تسببت في سقوط القتلى من صدمات الرئة أثناء مشاهدتهم.
في انفجار هاليفاكس الذي وقع سنة 1917 نتيجة 6 ملايين رطل من المواد شديدة الانفجار، تسبب انتشار الموجة الصدمية عبر وسط المدينة في وقوع عدد كبير من القتلى رغم ابتعادهم 1.5 ميل من مركز الانفجار. وقد أسفر انفجار هاليفاكس عن مقتل حوالي 1950 شخصا وإصابة 8000 آخرين بجروح بالغة.
في بيروت لحسن الحظ، بينما تم الإبلاغ عن أضرار في المباني على بعد 5.6 ميل، فإن نترات الأمونيوم منخفضة الانفجار ولّدت موجة ضغط بدلا من موجة صدمية، إلا أن الوفيات لا تزال حتى الآن تقدر بالمئات، على الرغم من أن حجم الشحنة التي انفجرت أكبر من شحنة هاليفاكس.
بفضل التكنولوجيا الحديثة، يمكن احتساب حجم الشحنة بشكل علمي أيضا عند عدم توفر جميع المعلومات حول الكارثة، وذلك باستخدام حجم الحفرة الناتجة عن الانفجار. يُظهر تحليل الصور الجوية للرصيف حفرة يتراوح قطرها بين 120 و140 مترا، وهنا تخبرنا فيزياء الانفجار أن إحداث حفرة بهذا الحجم من جانب الكوكب يتطلب شحنة تعادل 1.7 إلى 5.4 مليون كيلوغرام من مادة تي إن تي.
وذكرت الكاتبة أن تفجير مبنى موراه في أوكلاهوما سيتي سنة 1995 قد تطلب ما يعادل 1.8 ألف كيلوغرام من مادة التي إن تي، وهذا يعني أن انفجار بيروت لا يقل عن ألف ضعف من الانفجار الذي شهدته مدينة أوكلاهوما.
بعد الانفجار
نقلت الكاتبة عن طبيب قسم الطوارئ في مستشفى جامعة ديوك، دان باكلاند، أن انفجار هاليفاكس أسفر عن نفس سلسلة الأحداث التي لا تزال تحدث في غرف الطوارئ اليوم بعد حوادث الإصابة الجماعية. عالج باكلاند الضحايا في أعقاب انفجار تسرب غاز طبيعي في مقاطعة دورهام بولاية كارولينا الشمالية في سنة 2019، الذي على الرغم من أن حجمه كان أصغر بكثير، إلا أنه حدث في منطقة مكتظة بالسكان في وسط المدينة.
قال باكلاند إن الموجة الأولى من المصابين تضمنت الضحايا الذين كانوا على مقربة من قسم خدمات الطوارئ، والذين لم يحالفهم الحظ لتفادي الانفجار ولكنهم كانوا محظوظين بتواجدهم بالقرب من سيارة إسعاف. وبعد ذلك، اكتظت المستشفيات "بالجرحى السائرين"، الذين تستوجب إصابتهم الرعاية الطبية ولكنهم كانوا قادرين على التحرك.
كما صرّح باكلاند بأن ما يفسر تزايد عدد الناجين هو جلب الموجة الثالثة من الجرحى إلى المستشفى بمساعدة حشود الموجة الثانية. وتتكون الموجة الثالثة من الضحايا الذين كانوا قريبين من الانفجار، والذين يعانون من إصابات بالغة، حيث يقوم مسعفو الطوارئ بتمشيط المنطقة، ويعطونهم الأولوية الطبية بعد ذلك.
وخلصت الكاتبة إلى أنه بفضل العدسات التي رصدت الانفجار وتطبيق الفيزياء، يمكننا منع أي تصعيد لنظريات المؤامرة أو سوء الفهم. فلم يكن الانفجار في مرفأ بيروت بسبب قنبلة عسكرية، ومن المؤكد أنه لم يكن نوويا.