ظلت كلوديت حلبي تصرخ من تحت أنقاض منزلها على مدى ساعة كاملة، ثم أسلمت الروح، ولم يتمكن الجيران من فعل شيء لها.
ويقول جوني خوند -الذي كان يقف بالقرب من أنقاض بيتها في بيروت- "كنا نسمع الصراخ، سمعت صوتها لكننا لم نستطع فعل شيء، ما زال الأمر يعتصر قلوبنا".
ويقول جورج حلبي (نجل كلوديت) -الذي وصل من الخارج للمشاركة في تشييع جثمانها- "أنا في كابوس لا أصحو منه.. لا أصدق أنني أنظر إلى نعش أمي".
وفي مقابر الكنيسة، أدى الانفجار إلى تطاير الأبواب التي توصد مدافن العائلة، فانبعثت رائحة كريهة أزكمت أنوف المشيعين. ويتابع "إنها جريمة بحق كل لبنان.. أمي نجت من الحرب" لتموت في الانفجار.
ومثل الكثير من اللبنانيين، أنحى باللوم على النخبة التي حكمت البلاد منذ الحرب في دفع البلاد نحو الخراب.
الانفجار المروع الذي وقع في المرفأ دمر المنزل المكون من 3 طوابق؛ مما تسبب في وفاة 4 من بينهم كلوديت، وهي أرملة في السبعينيات من العمر.
وفي الكرنتينا، أحد أفقر مناطق بيروت، والقريبة من المرفأ، ومن بين الأكثر تضررا من الانفجار؛ لا يزال الناس يعانون من تبعات الانفجار الذي وقع في الرابع من الشهر الجاري، ودمّر منازل، وفتك بأرواح العديد من الجيران الذين كانوا يشعرون بأنهم عائلة واحدة.
كل سكان المنطقة يعرفون بعضهم بعضا، وأجهش الجميع بالبكاء عندما تذكروا الانفجار، ويكابد الجيران لتدبير الأموال اللازمة لإعادة البناء من دون مساعدة من الدولة.
وأدى انفجار مستودع المرفأ إلى مقتل ما لا يقل عن 172 شخصا وإصابة الآلاف وتدمير أحياء بأكملها، وأطاح بالجدران والشرفات في منطقة الكرنتينا.
وكانت المنطقة التي تضم مجزرا ومصنعا للنفايات، شاهدة على أحد أسوأ المذابح في الحرب الأهلية، التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990.
ومع هذا، قال كثيرون إن الانفجار خلف في بضع ثوان أضرارا تفوق ما تسببت فيه الحرب الأهلية على مدار 15 عاما. ومع تراكم الحطام مجددا على أعتاب منازلهم، أقامت أسر أمضت عقودا في منطقة الكرنتينا خياما خارج مساكنها، باتوا ينامون على الأرض أو على أرائك متهالكة في العراء من دون أبواب أو نوافذ.. في انتظار المجهول.
جني العمر
وقبل أشهر من انفجار المستودع، أتى انهيار العملة على ما جناه طوني مطر من متجر الأقمشة الخاص بعائلته. يقول مطر (68 عاما) الذي وُلد جده في حي الكرنتينا "مدخرات حياتنا كانت في هذا البيت.. كان جنة لنا".
الهزات القوية الناجمة عن الانفجار أسقطت الأبواب والخزائن والكراسي على ابنته باتريشا (25 عاما) التي قدمت إلى بيروت لحضور زفاف شقيقتها، ولن تتعافى من كسور عظامها قبل شهور.
وقالت سعاد زوجة طوني وهي متشحة بالسواد "كل مرة أعود فيها إلى المنزل أتذكر تلك اللحظة. أتذكر كيف سقطت ابنتي وأبكي".
كانت والدتها توفيت متأثرة بالسرطان قبل أيام، وقالت "لم يكن لدي وقت للحداد عليها.. هل تتصورون أني حمدت الله على وفاتها حتى لا ترى هذا".
صدمة طفل
وفقد عبده بتروني -الذي يعمل بالصيد- مدخراته الضئيلة التي كان يودعها خزانة في غرفة نوم دمرها الانفجار.
وتعتمد عائلته على التبرعات والمتطوعين الشباب الذين توافدوا للمساعدة من أنحاء البلاد. قال هو وآخرون إنه لم يأت أي مسؤول للمنطقة التي استقر بها لاجئون منذ زمن، وأصبحت لاحقا سكنا أيضا لبعض العائلات السورية والعمال المهاجرين.
وكانت زوجة بتروني حمت بجسدها طفليها اللذين يبلغ عمر أحدهما 9 سنوات والآخر 3 سنوات، ولم يصب أحدهما بخدش، لكن بتروني وجد ابنهما إيلي جاثما على الأرض يصرخ "لا أريد أن أموت.. لا أريد أن أموت".
قال الأب "إذا صفقت يفزع وينفجر بالبكاء.. في الليلة الأولى ناموا جميعا بجانب بعض على مرتبة عند مدخل بلا باب".
في كل زاوية كان هناك جيران يروون قصصا عن الخسائر، وعن الشجاعة أيضا؛ رجل ألقى بنفسه على ابنته لحمايتها واحتاج عشرات الغرز، وامرأة حملت والدتها الطاعنة في السن ووضعتها بين خزانتين".
وترك الانفجار المدينة -التي استغرقت عملية إعادة البناء فيها 15 عاما بعد حرب أهلية مدمرة- بمرفأ محطم وأحياء بأكملها صارت أنقاضا، تماما مثلما كانت الحال قبل 3 عقود.