في مثل هذه الأيام قبل نحو عام، وبعد ظهور إصابات معدودة بفيروس كورونا في عدة مناطق بالضفة الغريبة، بدأت السلطة الفلسطينية انتهاج سياسات الحجر والإغلاق الشاملة، فعُطِّلت المدارس والجامعات، وأُغلقت المساجد، وفُرض حظر تجول شامل مع إغلاق لمختلف مجالات النشاط التجاري، ومنعٍ للتجمعات بمختلف أشكالها.
حين فُرضت هذه الإجراءات، كان الوباء في بدايته، ولم يكن معروفًا بعدُ المدى الذي يمكن أن تصل إليه العدوى، ولا كان متوقعًا أن يستمر الفيروس حتى الآن، ولا أن تتزايد أعداد المصابين والوفيات، ولذلك كان متفهَّمًا التشدد في الإجراءات لتحقيق هدف محاصرة الوباء وإنهائه، خصوصًا أن تجربة بعض المدن الصينية كانت تشي بأن الإغلاق الشامل وحظر التجول المشدد قد أفرز نتائج إيجابية، رغم أنها منشأ الوباء. كما أن حداثة التجربة وعدم وعي الجمهور بوسائل الوقاية واعتماد إجراءات السلامة في وقتها تطلّب انتهاج سياسة إغلاق مشددة، وتحمّل معايشة فترة طوارئ مؤقتة، إن كانت ستؤمِّن في النهاية المجتمع ضد تفشي الوباء.
نقف اليوم بعد عام، ونلقي نظرة على مجمل التجربة خلال العام الفائت، على ضوء الواقع الحالي الذي يقول إن أعداد الإصابات تتزايد، رغم أنها كانت تتناقص في بعض الفترات، ثم نرى نتيجة حالة الطوارئ المستمرة منذ عام، وآثارها على القطاعات التعليمية والاقتصادية والصحية، فالتعليم قد تراجع على نحو مريع؛ ما ينذر بنشوء جيل جاهل وكسول وكاره للدراسة، والاقتصاد ضُرب في مقتل، في حين بات الجهاز الصحي يترنح تحت وقع الإصابات الكثيرة ونقص الكوادر الطبية والمعدات وأَسِرَّة العناية المكثفة، وقد تحولت المستشفيات كلها إلى مراكز لتصدير الوباء.
لا يبدو أن السلطة الفلسطينية، وكذا معظم الدول العربية، قد فعلت شيئًا ذا قيمة خلال عام كامل، يهدف إلى رفع مستوى كفاءة القطاع الصحي، وحين نتحدث عن عام، فقد كان ممكنًا خلاله سدّ كل الثغرات الصحية من خلال رفع ميزانية وزارة الصحة، وإعدادها للتعامل مع أقصى درجات الوباء حرجًا، ثم الاهتمام بالحصول على اللقاح فور توفره، ولو تطلب الأمر تقليص الإنفاق على قطاعات أخرى مثل الأمن، والاقتطاع من المرتبات الحكومية العالية للمسؤولين وضباط الأمن وغيرهم، لكنّ الرهان على إمكانية انتهاء الوباء بمجرد اتخاذ إجراءات إغلاق مشددة، ودون تعويض المتضررين من سياسات الإغلاق كان خطأ كارثيا، ومثله التقصير في إعطاء أولوية في الإنفاق والاهتمام للقطاع الصحي، ببناء مستشفيات إضافية للوباء وإكمال تجهيز القائمة منها، ومعالجة مشكلة نقص الكوادر والتجهيزات الطبية.
أما عن التعليم، فما الذي فعلته وزارته خلال عام كامل لمعالجة الثغرات الناشئة عن التعليم الإلكتروني، بعد أن باتت معروفة ومحددة؟ ولماذا قصّرت في وضع خطة فاعلة تزاوج بين نظامي التعليم الوجاهي والإلكتروني على نحو عملي ومثمر؟ وهل يُعقل ألا يكون لدى الجامعات –مثلًا- آليات تُمكِّن الطلبة من تقديم الامتحانات وجاهيًّا بدلًا من ترك حبل الغش على الغارب عبر تقديمها إلكترونيا؟ إنما يبدو أن الكسل وقلة الحيلة اللذين أفرزتهما ظروف الإغلاق قد انعكسا على كثير من المسؤولين في المواقع التعليمية ممن كان عليهم واجب طرح خطط عملية تنقذ الجيل من الجهل واستسهال الغش ومجافاة العلم.
أما الجمهور، فلا شك أنه يتحمل مسؤولية إلى درجة ما عن زيادة أعداد الإصابات، وهذا لا يعني إعفاء المسؤولين في القطاعات المختلفة من واجباتهم ومسؤولياتهم عن استمرار الخلل، إنما في الوقت ذاته لا يجوز مجاملة الناس وتجنب الإشارة إلى الأخطاء المجتمعية ونحن نشاهد كوارث حقيقية فيما يتعلق بالاستهتار بإجراءات الوقاية، إلى درجة صار معها بعض المصابين لا يبالون بالتنقل بين الناس ونقل العدوى لهم، ومنهم من يخفي حقيقة إصابته أو يتجاهلها حتى مع ظهور أعراض لديه، إضافة إلى الاستمرار في تجمعات الأفراح والأتراح دونما اهتمام بوسائل الوقاية، أو محاولة التخفيف من كثافة هذه التجمعات.
صحيح أن الناس ضاقت بتلك الازدواجية التي تتعامل عبرها السلطة مع إجراءات الحظر، حين تغلق المدارس والمساجد مثلًا وتغض الطرف عن أشكال أخرى للتجمعات، وصحيح أن أصحاب المصالح التجارية بحاجة إلى حلول أو تعويض لما أصابهم من خسائر من جراء سياسات الإغلاق، لكن هذا كلّه لا يبرر الاستهتار الذي يبديه قطاع من الجمهور في تعامله الحالي مع الوباء، فليس هكذا يكون الاحتجاج على تقصير السلطة ورفض تناقضاتها وبعض إجراءاتها العبثية، إنما من خلال سياسات احتجاج عملية تلزمها بالالتفات للمواطن، لصحته وتعليمه ولقمة عيشه، ومعالجة الثغرات وجوانب القصور، والتزام الاهتمام بالأولويات على نحو ملموس.