كنت شاهد عيان لمدة عام عندما اختارتني اللجنة الوطنية العامة للفصائل الفلسطينية في سجن كفار يونا عام 1999 للإشراف على أشبال السجن تربويا وثقافيا، فاطلعت على معاناتهم بكل تفاصيلها عندما جاءنا تسعة وثلاثين طفلا نحن المعتقلين الكبار في سجن كفار يونا وجدنا أنفسنا أمام صدمة من العيار الثقيل .. كان أحدنا قد اعتاد على رؤية أطفاله خلف الشبك في زيارة سريعة لا تكاد تبدأ حتى تنتهي فيعود الطفل إلى حضن أمه بعد أن رأى أباه وقد قطع شبك الزيارة وجهه إلى قطع صغيرة.. رأى أباه متناثرا متلاشيا وكأنه طيف شبح عابر ورأى الأب المعتقل طفله أيقونة بريئة لا تحتمل رؤية السجن وما فيه من مآسٍ رغم كل الابتسامات والضحكات التي يتفنن الآباء في صناعتها والتدرب عليها كي يخففوا من وقع الصدمة على أبنائهم.
أما أن يرى أطفالا يسيرون على أقدامهم داخل الفورة "ساحة السجن" ثم يعودون لدفن أرواحهم الصغيرة في زنازين لا تتسع إلى خيال طفولة ولا إلى براءة أرواحها الصغيرة، يا الهي إني لهذه القلوب الرقيقة أن تحتمل المبيت في هذه الصحاري القاحلة، لا شيء فيها سوى عوائهم ونبح كلابهم، كيف ينام هذا الطفل تحت بطانية لا يجد في ثناياها دفء أمه؟ كيف يغمض عينيه على صورة بؤساء مثله تتقاسمهم أصوات الحديد الصدئة؟ ستداهم روحه ليلا صورة المحقق الشرس الذي أخرج له أنياب الحكايات المرعبة: يرى الغول والذئب دون ليلى وصورة الجندي الذي وضع القيد في يديه والقى بالكيس النتن على رأسه ورمى به في غياهب زنزانة لا حدود لقسوتها، لن ينام قبل أن يستعيد شريط الاعتقال من أوله إلى اللحظة التي بات فيها ينتظر لحظة انشقاق جدران السجن وظهور الشاطر حسن أو علاء الدين بمصباحه الجميل أو ذاك الذي يفك سحر الساحر ويعيد الأميرة إلى قصر أبيها.
أصبحنا في سجن "كفار يونا" مع انضمام الأطفال إلينا في عذابين: عذاب وجودنا في السجن أولا ثم عذاب السؤال الذي يطرق جدران وعينا: ماذا يريدون من هؤلاء الأطفال وهل يتحملون ما يتحمله الكبار؟ لم نجد أي فروقات في طرق العذاب، ما يكال للكبار يكال للصغار دون أي مراعاة لحقوق طفل أو احتياجات عمره الصغير أو ما حفظته البشرية بما يخص الأطفال واعتقالهم، كنا معهم نأكل من الأكل نفسه ونخرج معهم للساحة في ساعات الخروج نفسها، وكذلك نفس العلاج وعقم العيادة الشكلية واساليبها المماطلة والمقيتة ونفس البوسطة وعذاباتها ومرمرة الزيارة والعنت الذي يلاقيه الأهالي يوم الزيارة والمحاكم المعروفة بقسوتها وبعدها كل البعد عن أي عدالة أو محاولة للبحث عن انصاف بحث جدي في التهم المنسوبة إلى الطفل.. ولم يكن لهم اعتبار تعليمي أو تطويري لأي مهارة من مهارات طفولتهم في متطلبات مراحلهم العمرية كأي طفل في العالم.. كانوا يفتقدون أي وسيلة للعب أو الترفيه فكنا نخيط لهم كرة قدم قديمة كلما اهترأت أعدنا لها الحياة من جديد وكنا نضطر لابتكار ألعاب ترفيهية دون ادوات كمحاولة بائسة للتخفيف من آلامهم النفسية.
أذكر أننا خضنا إضرابا نحن الكبار فحرمونا من زيارة الأهل وأضافوا الأطفال إلى هذه العقوبة فاستمر هذا المنع لمدة ستة أشهور وهل لك أن تتخيل طفلا موقوفا لا يعرف مصيره ولا ما ينتظره في محاكمهم اللعينة دون أن يزوره أهله ليزودوه ببعض الطمأنينة وما وصلت إليه المداولات مع محاميه، أو أن تأتيه أمه فيبث لها شيئا من حنينه وفراغ قلبه.
واذا اردنا ان نتحدث عن طريقة الاعتقال والفترة الفاصلة بين البيت والسجن .. كيف انقض الذئاب على فريستهم وساقوها الى وكرهم؟ وكيف كان التحقيق اذ ما رأيناه مع الطفل مناصرة من تصوير أثناء التحقيق معه إذ لم يكن تحقيق مخابرات وانما تحقيق شرطة .. وهذا لا يذكر مع تحقيق المخابرات .. كيف يقضي الطفل الفلسطيني وحده منفردا في زنزانة مظلمة وكيف يترقب فتح بابها ساعات طويلة جدا وأيام لا تكاد ان تكون لها نهاية ثم سحبه إلى زبانية العذاب ليقيموا له حفلة ليلية ويتسلوا على ألامه طيلة الليل ... التقيت طفلا في زنزانة مجاورة: تواصلت معه فماذا كان مطلبه من رجل من جيل أبيه ؟؟
قلنا إنه لا يوجد في ماكينة العذاب التي تسمى سجون عندهم أي اعتبار لكون المعتقل طفلا وزد على ذلك أو امرأة أو مريضا أو مسنا . الناس في العذاب سواء ، لذلك ما يقال عن عذابات السجون يندرج على الأطفال تماما . هو في نظرهم مخرب يستحق العذاب ولا بد من ردعه وقهره بكل ما لديهم من صنوف هذا العذاب .. نذهب بذلك إلى اليافعين والفتيان والفتيات فهل يصل ذلك إلى من ولدوا في السجون وكانت أعمارهم أشهرا وأيام ؟
قبل ذلك لم انس خاتمة المقال السابق حيث تساءلت عن مطلب طفل التقيته في زنزانة مجاورة ودارت بيننا أحاديث طويلة كان الذي يريده أن يسمع صوتا يبدد وحشة عتمة الزنزانة .. وجد أنيسا من الانس بعد أن حشرته الشياطين في واد سحيق لا يسمعه أحد ولا يسمع أحدا، أما وقد وجد أحدا من عالم الانسان فقد عادت له روحه وعاد قلبه للانتظام ولو شيئا قليلا وسط زحام الهواجس وخيال ذهب به بعيدا في عوالم سوداء لا بصيص من نور تتعلق به روحه المعذبة.
قصة اليوم مع من عاشوا السجن طفولتهم الأولى .. بواكير حياتهم كانت خلف جدرانهم السوداء ..واذا سألنا لماذا كل هذا العذاب والحرمان ؟ ليتبادر في الاذهان أن أما قاومت الاحتلال او شاغبت وعكرت عليه الماء الذي يشرب منه دون ان تراعي جنينا في رحمها ؟! ولكن ماذا لو وقفنا على قصة امرأة بعد عذابات طويلة هي وطفلتها على مدار ستة وثلاثين شهرا في السجن وقد حكمت محكمتهم ببراءتها من التهم المنسوبة اليها ؟ هذه نهاية القصة أما من البداية فحدث عن عجب العجاب .. وقد كانت هذه القصة من القصص الواقعية التي اعتمدت عليها كرافعة لمعنويات ذاك الطفل الذي كان جاري في الزنزانة .
هكذا في ليلة من ليالي الاحتلال الحالكة انقضوا على بيتنا وفي عملية قيصرية نزعوا من البيت أهم أركانه ، اصبح بلا أم وزوجة تماما كالروح بلا جسد وكالنبات بلا هواء وماء .. الام في زنازينهم تتلظى اقسى انواع العذاب اذ لم يعد بمقدورها ضم طفلتها الى صدرها الا ما استحضرته في خيالها بمشاعر واحاسيس فتنطلق لاهثة دون أن تجد ضالتها .. والطفلة تجوب اركان البيت زاحفة دون ان تأوي الى حضن دافىء اعتادت عليه طيلة خمسة عشر شهرا فلا تجد سوى برودة قاسية لا حياة فيها .. تبكي ولا أحد يعرف سر بكائها .. يفيضون عليها من حنانهم ولكنها لا تجد ذاك الحنان المفقود ..
تفتح أمها اضرابا عن الطعام قرابة عشرين يوما لتحقق لملمة مشاعرها وجمعها مع مشاعر طفلتها .. ذهبت الى أمر أخف قليلا في مرارته من مرارة هذا الذي لا يطاق .. هل توافق أما على ادخال طفلتها السجن .. هل ترضى بأن تصبح طفلتها سجينة ؟ وهي تعرف حق المعرفة كم ستعاني هذه الطفلة .. اننا أمام لغة لا نفقهها .. لغة الام ومشاعرها ..
وتلتقي الطفلة عائشة ابنة المعتقلة عطاف عليان مع المعتقلات، منهن أمهات متعطشات لطفولة ابنائهن الهاربة منهن .. تلتقي عائشة مع نور ابن الاسيرة منا غانم الذي ولد في السجن .. يا لها من حياة تناقضت وتضاربت فيها المشاعر بين الالم المر وفرح الطفولة البريئة .. كيف تصنع المحرومات المعذبات سعادة لطفولة تحدها جدران الزنازين وأشواك سقف الفورة العارية من اي معنى من معاني الحياة .. كيف يجدن سعادة تحدها زوايا الابراش القاسية ونعيق سجانات فاجرات وهدير بوسطات ومحاكم لا تعرف الا لغة القهر والبطش وقتل كل ما في الحياة من حياة .. كيف ترسم اما لطفلتها ابتسامة وهي غارقة في بحر من الالام ؟!
وتسير هذه الايام المفترض ان تكون ايام طفولة جميلة كل يوم له معنى جديد يرقبه والدا الطفل ، تسير على الشوك ويلد كل يوم يوما جديدا بشق الانفس .. بين الفورة والزنزانة والبرش والبوسطة والمحكمة تتولد لغة طفولة لا مكان لها في قواميس البشر،تتنافس المعتقلات في ابتكار ادوات السعادة لهذه الطفولة الجميلة وسط اسلاكهم الشائكة ، يحاولن التعويض عما فاتها ، اسيرة تقلد اصوات القطط واسيرة تخيط ارنبا وتلك تغني لحنا يحبه الاطفال واسيرة تتعاون مع ثانية في تمثيل ارجوحة يمرجحن فيها عائشة ، ويأتي يوم يقرر فيه الاحتلال قطع هذه السعادة ، الافراج عن الطفلة دون امها قسرا .. ويحدث مرة أخرى هذا الانفصال النكد .. " عليك ان تأتي لاستلام ابنتك " .. وتنطلق ابنة السنتين فارة من السجن وويلاته .. لا تنظر للخلف : لسان حال فطرتها البريئة يقول : امي ام الحرية اختار الحرية على أمي .. يا الهي الهذه الدرجة تعني الحرية .. الهذه الدرجة يعني حرمان شعب كامل من حريته واغراقه في ظلام الاحتلال على مرأى ومسمع العالم أجمع الذي يدعي زورا وبهتانا انه العالم الحر ؟؟
هذا فيض يسير من غيض دونته في رواية أمهات في مدافن الاحياء .. من اراد التفاصيل يجدها هناك ..