نشرت صحيفة “واشنطن بوست” تقريرا أعده جوبي واريك ودان لاموث ومات فايسر وكروان دميرجيان استعرضوا فيه الكيفية التي توصلت فيها الولايات المتحدة إلى تحديد مكان زعيم تنظيم الدولة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي. وقالوا إن كون القرشي كان مبتور القدم ساعد المسؤولين على تحديد مكانه في شمال- غرب سوريا.
وقالت الصحيفة “في الخريف الماضي، تحركت طائرة بدون طيار أمريكية إلى جانب بيت وسط بستان زيتون في شمال-غرب سوريا، وكانت كاميراتها تركز للحصول على نظرة لرجل ملتح قيل إنه يعيش في الداخل. وفقد الرجل الذي يطلق عليه أحيانا “البرفيسور” رجله في الحرب ومن النادر ما كان يغادر شقته بالطابق الثالث. ولهذا ركزت الطائرة المسيرة عدساتها على شرفة سطح البناية وانتظرت”.
وشاركت أرصدة أمنية بكاميرات وأجهزة استشعار عن بعد في عملية المراقبة فوق البيت وحوله، حيث أثمرت الجهود. ففي بعض الأيام وعندما يكون الطقس جيدا، كان الرجل يظهر وهو يعرج نحو الشرفة وبسجادة لأداء صلواته اليومية. وفي بعض الأحيان كان يأخذ منشفة ويعصرها من حنفية على السطح. وفي بعض الأوقات كان يخرج من البيت لوقت قصير أو يقف على الباب ليأخذ بعض الهواء النقي. وكان وضع الرجل الذي فقد رجله مهما للجهات التي تراقبه، فصورته تطابق تماما وصف الرجل الذي كان محلا للبحث الدائم: أبو إبراهيم الهاشمي القرشي. وبرقابة إضافية أكد محللو الاستخبارات الأمريكية هوية الرجل.
وبعد عامين من الملاحقة تم التعرف على القرشي المراوغ من خلال جواسيس على الأرض ثم تم التأكيد على هويته من عدسات تلسكوب في طائرة مسيرة. لكن التعرف على هويته كان شيئا وعملية القبض عليه أو قتله كان شيئا آخر. فالمسؤولون الأمريكيون المنخرطون في العملية تساءلوا عن مخاطر إرسال أعداد من القوات الأمريكية وتخفيض حجم الضحايا بين المدنيين، ذلك أن أعدادا من النساء والأطفال كانوا يعيشون في نفس البناية. أما السؤال الآخر، فهو يتعلق بتوقيت العملية، هل يجب القيام بها حالا أو الانتظار لحين جمع المزيد من المعلومات عن شبكة القرشي الإرهابية والخلايا السرية. وأثمر الانتظار حسب مسؤولين أمريكيين سابقين وحاليين ومسؤولين في مخابرات الشرق الأوسط، الذين وصفوا بدقة تفاصيل العملية التي أنهت مسيرة واحد من أخطر الإرهابيين في العالم.
وقال مسؤول أمني سابق اطلع على الأحداث “كان هناك سيل من الاتصالات بين الخلايا” وتم كل هذا عبر سعاة وحملة رسائل. وأضاف أن المسؤولين “قاموا بتحليلها وجمع ما يمكنهم من بيانات حتى يعرفوا عن ماذا يتحدثون”. وجاء إعلان الرئيس جوي بايدن عن مقتل القرشي في الأسبوع الماضي تتويجا لعملية قامت بها قوات العمليات الخاصة (دلتا فورس) وحاصرت ملاذه الآمن الذي قال المسؤولون إنه كان ملغما بالقنابل والمتفجرات بشكل أدى لمقتل القرشي وعائلته. وأشارت الصحيفة إلى أن الرواية التي جمعتها من مقابلات وإيجازات رسمية وبتعاون وكالات الاستخبارات الأمريكية وحكومة أجنبية واحدة تقدم رؤية ثاقبة عن البحث المنهجي والذي أدى للوصول إلى القرشي، إلى جانب أسابيع من الرقابة الحذرة للزعيم الإرهابي وحدث في وقت حاول فيه تنظيم الدولة إعادة بناء شبكته بعد ستة أعوام من النكسات والهزائم. وأظهرت الصورة أن القرشي كان متحكما في كل أمور التنظيم ولديه طموح بإعادة بناء ما اطلق عليها الخلافة التي سيطرت مرة على مناطق بحجم إنكلترا.
وقال المسؤولون إن علاقة القرشي المباشرة في تفاصيل عمل التنظيم جعلت منه شخصا خطيرا، وهو ما عرضه للخطر مع مرور الوقت. ونقلت الصحيفة عن مسؤول بارز في إدارة بايدن “كان إلى حد كبير على رأس القيادة”. وكان قادته وسعاته “في حالة نشاط دائم” و”التأكد من أن تعليمات وأوامر حاج عبد الله وصلت”، في إشارة إلى واحد من ألقاب القرشي، 45 عاما، الذي ولد في العراق باسم أمير محمد سعيد المولى. وكان يعرف بأسماء أخرى مثل “البرفسور” أو “برفسور عبد الله” لحصوله على درجة أكاديمية في العلوم الإسلامية.
وأضافت الصحيفة أن المداهمة في الأسبوع الماضي كانت نتاج بحث استمر مدة عامين بدأ بترفيع القرشي لقيادة تنظيم الدولة. وجاء ترفيعه إلى منصب “خليفة” بعد مقتل سلفه أبو بكر البغدادي والذي فجر حزاما انتحاريا كان يرتديه في تشرين الأول/أكتوبر 2019. وكانت نهاية البغدادي في مكان لا يبعد سوى 15 ميلا عن المكان الذي قتل فيه القرشي. وتكشف الوثائق أن الطابق الثاني تم استئجاره في آذار/مارس من رجل يعتقد المسؤولون الأمريكيون أنه أبو أحمد الحلبي، أحد رجالات القرشي البارزين. وانتقل الحلبي قبل أسبوعين وحصل على عقد إيجار للطابق العلوي كذلك. وبعد وقت، انتقل القرشي إلى الطابق الثالث وبشرفة تطل على بساتين الزيتون. ومن أجل تجنب الذين يلاحقونه، تبنى زعيم الدولة بروتوكولا أمنيا دقيقا، كما يقول المسؤولون الأمريكيون.
فبالإضافة إلى منع الهواتف النقالة واتصالات الإنترنت اعتمد على السعاة والمراسيل ممن اعتبرهم التنظيم شخصيات موثوقة. وتأكدت الترتيبات من الزيارات إلى أطمة، وهي مكان إقامة القرشي الأخير، والقريبة من الحدود التركية والبعيدة ماديا وثقافيا عن معقل التنظيم في وادي الفرات. وينظر الكثير من السكان المحليين للتنظيم بمزيج من الخوف والاحتقار، وعادة ما ينظرون بنوع من الشك للزوار الجدد. وقال المسؤولون إنه كان من السهل تمييز القرشي بسبب فقدانه رجله والتي يعتقد المحللون في سي آي إيه أنها قطعت بعد غارة جوية في 2015.
وكان يظهر وهو يتشمس على السطح أو يتنزه بين حقول الزيتون. ووصلت أخباره من المخبرين إلى قوات سوريا الديمقراطية التي بدأت تراقب مع الأمريكيين دخول وخروج السعاة. وتم توسيع عمليات الرقابة لتشمل أحدث الكاميرات وأجهزة الاستشعار، ركب معظمها على طائرات بدون طيار تابعة لوزارة الدفاع الأمريكية. وقام “المسؤولون عن الأهداف” في سي آي إيه بالنظر في كم من المواد الخام التي جمعت وكرسوا مئات من ساعات العمل وأضافوا إلى جهود الاستخبارات العسكرية والمحللين الذين استمروا بمراقبة البيت والحي. وقال مسؤول عسكري يوم الخميس “عملنا بجهد كبير مع المجتمع الأمني كي نطور فهما عميقا عن الناس المقيمين في البناية ومعرفة أشكال الحياة لهم”. وثار في نفس الوقت نقاش حول كيفية استهداف القرشي، بغارة جوية قد تؤدي لقتل أعداد من المدنيين أو إرسال قوات خاصة إلى منطقة مضطربة.
وبحلول أيلول/سبتمبر بدأت القوات الخاصة بالتدرب على مداهمة المنزل باستخدام منزل يحاكي محل إقامة القرشي ومحيطه. وكان المخططون على ثقة بأن المكان محاط بمتفجرات ومفخخات. وتم التفكير بغارة جوية لكن تم التخلي عنها سريعا. وقال مسؤول عسكري “كانت هناك عائلات غير مقاتلة منها عائلة بأطفال تحتل الطابق الأرضي”. وكانت غارة من خلال مروحية بوحدة كوماندو محفوفة بالمخاطر للفريق حسب المسؤول. و “كان الهدف للمهمة هو إلقاء القبض على زعيم تنظيم الدولة وجمع أكبر قدر من المعلومات وتجنب قتل المدنيين”.
والتقى الرئيس بايدن في 20 كانون الأول/ديسمبر مع قادة الأمن القومي للموافقة على العملية. وسأل الرئيس عن المدنيين الذين يعيشون في الطوابق الأخرى وإن كان البيت سينهار لو فجر زعيم الدولة نفسه. وبحسب المهندسين العسكريين الذين درسوا البناء فإنه لن ينهار. ولم تكن هناك عجلة للقيام بالعملية غير التدريب واعتبارات أخرى مثل الطقس وانتظار ليلة مظلمة لتوفير الغطاء على الوحدة المنفذة. وفي الوقت نفسه سمحت المراقبة المستمرة للمخابرات الأمريكية توسيع معرفتها بشبكة القرشي الممتدة في العراق وسوريا. وبسب الرقابة الشديدة كان المسؤولون على ثقة بالكشف عن أية محاولة لمغادرة المبنى. وبأي حال ستكون فرصة لتوجيه ضربة جوية بعيدا عن سكان المبنى المدنيين.
وفي الأسابيع التي تبعت لقاء بايدن وتنفيذ العملية جمعت المخابرات كنزا من المعلومات حيث تزايدت الزيارات والرسائل إلى المقر في أطمة، وبخاصة بعد عملية احتلال السجن بالحسكة وتحرير سجناء التنظيم هناك. وقال مسؤول سابق في المخابرات “كان هذا الرجل يخطط”، في إشارة إلى القرشي الذي كان يشرف على سلسلة من الاغتيالات والتفجيرات في سوريا والعراق “وأنت ترى رجلا يديه ملوثتين بالدم”. وبحلول الأول من شباط/فبراير قرر المخططون أن الوقت سانح للعملية، وفي لقاء مع بايدن في المكتب البيضاوي، تم إطلاع الرئيس على التحضيرات النهائية. وفي 2 شباط/فبراير وفي الساعة الخامسة مساء بتوقيت واشنطن استدعي بايدن إلى غرفة الأزمة في البيت الأبيض لمراقبة العملية من خلال رابط بالفيديو مع البنتاغون. وقال مسؤول واصفا المزاج في الغرفة “كان هادئا ومتوترا” و “لم يكن هناك حديث كثير”.
ومما زاد في الضغط هو أن القوات الخاصة كانت تتحرك نحو منطقة معادية وتحلق في مجال جوي يسيطر عليه الروس. واتخذ قرار بعدم تحذير الروس مقدما والاعتماد على قنوات خفض التوتر. وفي الساعة الواحدة صباحا، 3 شباط/فبراير بالتوقيت المحلي، السادسة مساء بواشنطن كانت مروحيتان تحملان عددا من القوات الخاصة تحلقان فوق البيت في أطمة. وعندما كانت قوات دلتا تتحضر للنزول بالحبال حلقت طائرات أباتشي في الجو لمراقبة الوضع. وأيقظ صوت المروحيات الناس في المنطقة وخرجوا من منازلهم لمعرفة ما يجري. وسمع صوت بالعربية يقول “من يريد الحفاظ على حياته عليه الخروج”.
وقام الجنود الذين نزلوا بالحبال بإخراج العائلة في الطابق الأول. ولم يكن القرشي ليسمح لنفسه أو عائلته بالنجاة، فالمكان كان مفخخا، ولكن لا يعرف من بدأ التفجير أولا، القرشي أم شخص آخر. ويعتقد بعض المسؤولين أن زوجته هي التي فجرت. وتبع التفجير الأول الذي دمر الجدران ونثر الجثث فترة سكون، ولهذا أرسلت الوحدة “قدرات أخرى” أي روبوت ومسيرة لمسح المكان. وفي أثناء البحث تعرض الجنود للنيران من مساعد القرشي وزوجته في الطابق الثاني، وقتل كلاهما. وتم سحب الأطفال من المكان وتسليمهم لعائلة أخرى في المكان. وبعد ساعتين كانت العملية قد انتهت، وانشغل الجنود بالبحث عن معلومات أمنية وأخذ عينات الحمض النووي من جثة القرشي التي تركت في مكانها. وتم التأكد من هوية القرشي والانتهاء من الفحوص في الساعة السابعة صباحا بتوقيت واشنطن أي بعد 12 ساعة من المداهمة. وأعلن بعد ذلك بايدن مقتل زعيم الدولة.