لا تبدو عملية بئر السبع مُناظِرة لغيرها من العمليات، وتحديداً على مستوى النتائج التي جاءت قاسية على العدو، حكومةً ومؤسّسات ورأياً عاماً.
ولعلّ أكثر ما يثير قلق سلطات الاحتلال هو أن العملية ليست حدثاً يتيماً، وإنما حلقة في سلسلة متواصلة، وانعكاس لإرادة الفلسطينيين مقاومة الاحتلال بالإمكانات المتوافرة، على رغم كلّ الظروف الصعبة المحيطة بهم. ولذا، تخشى القيادة الإسرائيلية من أن يشكّل الهجوم فتيلاً لانفجار أوسع، أو في الحدّ الأدنى عامل تحفيز على محاكاته في الداخل المحتلّ وفي الضفة الغربية، من أجل أن يتكامل ذلك مع ضربات المقاومة انطلاقاً من غزة.
ويتجلّى أحد أوجه تمايز هذه العملية وخطورتها، في أنها، بحسب التقارير الإعلامية الإسرائيلية، «أحد أقسى الهجمات التي عرفتها إسرائيل في السنوات الخمس الأخيرة، إنْ لم تكن أقساها»، فضلاً عن أن تنفيذها جرى في عمق الكيان، وانطلاقاً من الأراضي المحتلة عام 1948، حيث يُعدّ منفذّها، وفق قوانين الاحتلال، «مواطناً إسرائيلياً»، وهو ما يشكّل دليلاً إضافياً وحيّاً على فشل سياسة التجزئة التي حاول العدو فرضها على الفلسطينيين.
كذلك، أظهرت العملية فشل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في إحباطها مسبقاً، لا لتقصير أو خلل أو نقص - بالضرورة - في إمكانات هذه الأخيرة التي تتمتّع بالخبرة ولديها كلّ عناصر القوّة والتفوّق المطلوبة، بل لكون هذا النمط من العمليات عصيّاً على الكشف؛ لكون المقاوم نفسه يؤدّي فيه دور المقرِّر والمخطِّط والمستطلِع والمنفّذ، سواءً كان منتمياً تنظيمياً إلى أحد الفصائل أم لا.
وبحسب التقدير السائد لدى الأجهزة الأمنية والعسكرية، فإن الأسير المحرَّر، محمد أبو القيعان، شنّ الهجوم من تلقاء نفسه، لدوافع أيديولوجية، وهو ما يُصعّب على الجهات المختصّة مهمّتها. وكانت أجهزة أمن الكيان تتوقّع وتتخوّف من أن تشهد الأسابيع المقبلة جولة تصعيد خطيرة.
وعلى هذه الخلفية، زار رئيس «الشاباك،» رونين بار، قبل نحو أسبوعين، واشنطن، حيث بحث سيناريو نشوب مواجهات خلال شهر رمضان المقبل، لا سيما في ضوء تزامن عيد الفصح اليهودي، الذي يُرجّح أن تتصاعد فيه استفزازات المستوطنين، مع بدء شهر رمضان، وقريباً منهما أيضاً مناسبتا يومَي النكبة والنكسة.
على أن العملية انطوت على قدْرٍ من المفاجأة بالنسبة إلى الأجهزة الأمنية، إذ كشفت تقارير إعلامية إسرائيلية أنه «في كل تقديرات الوضع التي أُجريت، ركّزت المؤسسة الأمنية والعسكرية على إمكانية تدهور الوضع في الضفة والقدس، وبنسبةٍ أقلّ على إمكانية أن يقرّر أحد من الأقلية تنفيذ هجوم فتّاك». لكن السيناريو الذي تحقَّق، هو الأقلّ رجحاناً بالنسبة إلى هؤلاء.
ويتعزّز عنصر المفاجأة أيضاً، في كون الشهيد أبو القيعان «لا يستجيب للبروفيل المتوسّط للمقاومين»، وفق عدّة معايير، أبرزها أن «عمره 34 سنة، كبير نسبياً، وأب لخمسة أولاد وأستاذ سابقاً... وهو شخص كان معروفاً للمؤسسة الأمنية والعسكرية، بل وحتى دخل السجن الإسرائيلي حيث اعتقل لمدّة أربع سنوات». ومن هنا، سيكون على «الشاباك» إجراء مراجعة جدّية لفهم الأخطاء التي أدّت إلى ما حدث.
وفي التوقيت السياسي، تأتي العملية لتُعيد قضية فلسطين، ولو مؤقتاً، إلى صدارة المشهد الإقليمي، على رغم تسارع مشاريع التطبيع. كما تشكّل رسالة إلى كلّ المطبّعين بأن لشعب فلسطين خياراته، في وقت يسرّع فيه هؤلاء «تعاونهم» من أجل حمايته من مخاطر الصواريخ والمسيّرات، عبر تقديم منصّات جغرافية متقدّمة للإسرائيليين، تمكّنهم من الدفاع والهجوم.
وفي الدلائل أيضاً، تثبت العملية، مجدّداً، قدرة الشعب الفلسطيني على تغيير المعادلة في المنطقة، في ما لو توافرت له الإمكانات التي يحول دونها الطوق العربي. وهو ما أشار إليه قائد شعبة العمليات السابق في الجيش الإسرائيلي، اللواء إسرائيل زيف، عندما قال: «لو كان هذا المقاوم سلاحاً رشاشاً، لكان سقط عشرات المصابين».
ويبرز هنا فارق أساسي بين عمليات فردية وبين عمليات تستند إلى بنية تحتية؛ إذ على رغم أن النمط الأوّل يتمتّع بحصانة أكبر إزاء الكشف والإحباط، إلّا أن النمط الثاني أقدر على إلحاق خسائر أشدّ وضغوط أقسى على كيان العدو. لهذا، تتذكّر إسرائيل وأجهزتها، مع كلّ عملية فردية، فضل الأنظمة العربية وأجهزة السلطة التي تلعب دوراً جوهرياً في «حمايتها».
وفي البعد الإسرائيلي الداخلي، من المتوقّع - كما في كل محطة مشابهة - أن تتحوّل العملية إلى مناسبة للتصويب على حكومة نفتالي بينيت، وعلى سياساته، ومن ضمن ذلك ما صدر حتى الآن من أنه في الوقت الذي ينشغل فيه بالتقاط الصور مع الزعماء العرب، يغفل عن التهديد الداخلي.
ومع هذا، تساهم مجموعة عوامل في تقييد خيارات حكومة العدو. فهي، وعلى رغم كلّ المزايدات، ستعمل على احتواء العملية بأقلّ رد فعل ممكن، خصوصاً أنها معنيّة بتجاوز المناسبات الدينية اليهودية والإسلامية بأقلّ الأضرار، على اعتبار أن أيّ إجراء ستتّخذه من شأنه أن يحفّز المزيد من العمليات الفردية.
إلا أن هوية المنفّذ، وتحديداً كونه بدوياً، ستدفع اليمين المتطرّف إلى تصعيد استفزازاته، كما ستحمل الأجهزة الأمنية والسياسية، لاحقاً، على مواصلة سياسة تهويد النقب واقتلاع سكانه منه، أو تحجيم وجوده بعناوين مغلّفة.
وفي الخلاصة، يتّضح أن حكومة العدو وأجهزته الأمنية تواجه معضلة جدية؛ فهي مقيّدة عن تصعيد إجراءاتها التي تدرك أنها ستحفّز المزيد من العمليات المشابهة. وفي المقابل، لا تستطيع أن تبدو كابحة لليمين المتطرّف الذي يتعمّد إحراجها من خلال تصعيد استفزازاته في المناسبات المقبلة.