١)
الناظر في السياسات الاستعمارية الإسرائيلية تاريخيّاً، يتبين لديه بلا التباس أنّ الإسرائيلي يرتكز في توسّعه وتطبيع وجوده وفرض سياساته إلى تكريس الوقائع الاستعمارية، التي يجري تحصيلها وتثبيتها بالتمدّد للذات، والشطب والنفي للفلسطيني، ثمّ تصير هذه الوقائع مكتسبات للإسرائيلي لا يمكن له التراجع عنها، ولا سيما إذا كانت في قلب مجاله الحيوي، وذلك لأنّ التراجع بالنسبة له يتصادم مع سرديته المؤسّسة ويكشف عن مكامن ضعفه الوجودي، وفي أقلّ الأحوال تتحوّل هذه الوقائع إلى الأساس الذي يدير عليه الاحتلال علاقاته مع الآخرين.
بعدما صار ما احتلّ من فلسطين عام 1948 خلف ظهر الواقع التاريخي بالنسبة للإسرائيلي، وخارج أيّ نقاش، فقد باتت كذلك البنى الاستيطانية التي يفرضها الاحتلال في ساحة الضفّة الغربية، ومن باب أولى ما يسميه الاحتلال "القدس الكبرى". والحاصل، حين مراجعة مسارات المفاوضات بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين الاحتلال، فإنّ الثابت في ذلك هو رفض الاحتلال الرجوع إلى الوراء، وفي حال كان ثمّة قبول ضمنيّ بالرجوع النسبيّ فعلى ضوء الوقائع المكرّسة، انطلاقاً من الاعتراف بها، ثم إعادة صياغة نتائج المفاوضات على ضوئها. ففي أحسن ما قدّمه مفاوضون إسرائيليون في مراحل ماضية، كان ثمّة إصرار على فرض وجود إسرائيليّ ما في الضفّة الغربية، بمعنى أنه لا أحد منهم يتحدث عن انسحاب كامل من الأراضي المحتلة عام 1967.
الأمر نفسه في ما يتعلق بالمسجد الأقصى، الذي واجه سياسة إسرائيلية طويلة النفس، تهدف إلى فرض سيادة إسرائيلية على المسجد لا تقبل الشراكة، وهو ما يفسر إصرار المؤسسة الإسرائيلية بكل مستوياتها، على إنفاذ الاقتحامات الاستيطانية الدينية للمسجد الأقصى، دون توفّر إجماع دينيّ على ذلك، ولكن الإجماع منعقد في حدود ضرورة فرض السيادة الإسرائيلية على المسجد. نتائج هذه السياسة تظهر الآن، في التصريح العلني لرئيس حكومة الاحتلال "نفتالي بينيت" الذي يحصر القرارات المتعلقة بالمسجد الأقصى بـ"إسرائيل" "دون اعتبار لحسابات خارجية"، قاصداً بذلك الأردن.
تنسحب "إسرائيل" كليّاً والحالة هذه، من اتفاقها مع الأردن، وفق اتفاقية "وادي عربة" على وصاية أردنية على المقدسات الإسلامية في القدس، لكنّ هذا الإلغاء العملي والنظري لهذا التفاهم، جاء بعد سلسلة طويلة من الإجراءات العمليّة التي ظلّت تكرّس بها "إسرائيل" وقائعها، ابتداء من سحبها من الأردن، منذ انتفاضة الأقصى، حقّ تقرير أعداد السائحين الذين يمكن السماح لهم بالدخول إلى ساحات المسجد الأقصى، ومن ثمّ باتت "إسرائيل" تدفع مستوطنيها للدخول إلى المسجد، وفي مرحلة تالية بإلغائها الاتفاق مع الأردن بمنع المستوطنين من أداء الصلوات الدينية داخل ساحات المسجد، حيث بات المستوطنون يؤدون صلواتهم علناً الآن، وهو ما يعني تقسيماً فعليّاً للمسجد.
لم يكن لـ"إسرائيل" أن تصل إلى هذه المرحلة إلا بعد إجراءات طويلة من تكريس الوقائع، كان يرافقها تراجع عربيّ رسميّ ضمنيّ، فلسطينيّ وأردنيّ، لا يقابل الإجراءات الإسرائيلية بما يكافئها من إجراءات سياسية أم أخرى في الشارع وبين الجماهير، فالسكوت والقبول والتمرير وسياسات فرض الهدوء ونزع عوامل التثوير وكبح الجماهير، وإعادة صياغة إجراءات إدارة الأوقاف في المسجد الأقصى بما يمنع الاحتكاك مع مستوطني الاحتلال أو قواته، كلها وفرت للاحتلال فراغاً مريحاً للوصول إلى المرحلة التي يهيمن فيها منفرداً على إدارة المسجد والتحكم في قرارته، وصولاً أخيراً إلى إجراءات، قد تنذر، إن جرى السكوت عنها، إلى الذهاب نحو خطوة تقارب ما جرى في المسجد الإبراهيمي، فالإغلاق المتكرر للمسجد أخيراً ومنع الصلوات فيه وقطع الأذان عنه، عند أدنى حدث يحصل في محيط البلدة القديمة، ومنع الشباب المقدسي أحياناً من صلاة الفجر فيه.. كلّ ذلك قد يكون ممهّدات لما هو أخطر.
(٢)
في المقابل، وبعد التأكيد على السياسات الرسمية التي وفرت للاحتلال البيئة الأكثر راحة للتمدّد وتكريس الوقائع، بما في ذلك موجات التطبيع الحميمية المتتالية، التي لا تقيم أدنى وزن لا لحقوق الفلسطينيين ولا لمقدسات المسلمين، فإنه لا يمكن إغفال وقائع أخرى كرّسها الفلسطينيون، بفعل مقاومتهم لا بفعل أيّ شيء آخر، مع أخذ فجوات القوّة وموازينها بين الطرفين بعين الاعتبار، فالنظرة، والحالة هذه، نسبية.
لا يمكن أن نغفل الإنجاز الفلسطيني النسبي، والمرحلي وغير النهائي، في بعض الملفات المقدسية، كساحة باب العمود ومصلى باب الرحمة وحتى حي الشيخ جراح. فبالرغم من أنّ بعض هذه الإنجازات ما تزال في قلب الصراع، والقدرة الإسرائيلية فيها أعلى، كما في حيّ الشيخ جراح، وبعضها يعمل الاحتلال على التحايل عليها لفرض هيمنته بأدوات ناعمة كساحة باب العمود، وبعضها بين شدّ وجذب كمصلى باب الرحمة، فإنّ ذلك لم يكن لولا مقاومة الفلسطينيين، ولولا خشية الاحتلال من توسّع حالة المقاومة وخروجها عن السيطرة، بما يربكه داخلياً، ويفشل مشاريعه الخارجية على مستوى هندسة الموقف مع الفلسطينيين، أو تثبيت تطبيعه مع العرب.
وحتى الاقتحامات للمسجد الأقصى، التي يبدو أن الاحتلال قطع فيها شوطاً خطيراً، فإنّ ما يعتريها من حذر ناجم -وحصراً- عن مقاومة الفلسطينيين، وهو ما يمكن سماعه في بعض السجالات الإسرائيلية الداخلية، سواء تلك الصريحة التي تحمل جماعات المعبد المسؤولية عن التصعيد الذي يفضي إلى أثمان إسرائيلية في الأرواح، أم تلك التي تبدي ارتباكاً ما بين ضرورة تكريس السيادة وبين الأثمان الناجمة عن ذلك، والمآلات التي قد تفضي إليها سياسات تكريس السيادة. وهو ارتباك لا يخفى في العديد من الأصوات السياسية والأمنية والعسكرية والإعلامية.
يمكن ملاحظة ذلك في تنويع الاحتلال موجته، ردّاً على سلسلة العمليات الفلسطينية الأخيرة التي تنطلق من الضفّة الغربية، ويغلب عليها أنّها ذاتية الدافع، فما بين الحسابات الدقيقة في نوع الحملة الأمنية على الضفّة وحجمها وأدواتها، وبين محاولة تنفيس غضب الجمهور الإسرائيلي بالتلويح باغتيال قائد حركة حماس في قطاع غزّة، مع تأكيدات من أوساط إسرائيلية متعدّدة أن أيّ مواجهة مع غزّة مغامرة لا تعرف لها عواقب مضمونة، وبين التهديد لاغتيال قيادات لحركة حماس في الخارج.
لماذا يبدو الإسرائيلي مرتبكاً إلى هذه الدرجة؟ لماذا هو غير مندفع في إجراءاته الأمنية في الضفّة؟ لماذا لم يعد قادراً على ضرب قطاع غزّة متى شاء وبالكيفية التي شاء؟ لماذا باتت عمليات الاغتيال العلنية لقيادات المقاومة في قطاع غزّة من ذاكرة التاريخ ولم تعد حاضرة بجدّية كما كانت من قبل؟
بالرغم من كل ما يمكن قوله حول مشكلات المقاومة في غزّة، والعقبات التي تحيط بها، بيد أنّه لا بد من أن يُسجّل لها، أنها كرّست وقائع فلسطينية، حالت دون إطلاق يد الاحتلال، وفرضت وقائعها على مستوى وعيه ومستوى حساباته، ولا يمكن إدراك أهمية هذا التطوّر، دون مراجعة تاريخ الصراع القريب على الأقل، منذ انتفاضة الأقصى وحتى اللحظة
بعض هذه الأسئلة الإجابة عليها مركبة، لكن في قلب الإجابات كلّها، تحضر دائماً وعلى نحو ثابت المقاومة التي كرّسها الفلسطينيون. المقاومة الصلبة، والجاهزة، والجادّة، والمشغولة بكسر معادلات الاحتلال أو تثبيت معادلاتها أمامه، وذلك بالرغم من كل ما يمكن قوله حول مشكلات المقاومة في غزّة، والعقبات التي تحيط بها، بيد أنّه لا بد من أن يُسجّل لها، أنها كرّست وقائع فلسطينية، حالت دون إطلاق يد الاحتلال، وفرضت وقائعها على مستوى وعيه ومستوى حساباته، ولا يمكن إدراك أهمية هذا التطوّر، دون مراجعة تاريخ الصراع القريب على الأقل، منذ انتفاضة الأقصى وحتى اللحظة.
أمّا الضفّة الغربية، فليست بيئة محرّرة من الوجود المباشر للاحتلال، ولا تتوفّر فيها سلطة محلّية متعاطفة مع قضية المواجهة، والتنظيمات فيها ضعيفة ومفكّكة نتيجة عمليات الاستنزاف الطويلة التي واجهتها دون توقّف منذ عقود، إلا أنّ تصاعد حالة المقاومة فيها الآن، بدورها تبدو من أهمّ ما يربك حسابات الاحتلال، مما يعني أنّها حالة يمكنها، بمزيد من العمل والتطوير، أن تملك أدوات الفرض، كما يعني أنّ الاحتلال في ذاته يضمر عوامل ضعف تخفيها القوّة المادية المنتفشة. هذه لحظة يمكن التقاطها والبناء عليها لمن كان لديه من الفلسطينيين المشروع والجدّية والهمّ والخيال الخلاق.