نشرت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" وثائق سرية بخصوص تفاصيل عملية "غضب الرب" التي فشل من خلالها جهاز الموساد الإسرائيلي في اغتيال الناشط الفلسطيني أبو حسن سلامة، عام 1973 في النرويج، ما أثار انزعاجا أوروبيا ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وفي 20 تموز/ يوليو من عام 1973، قتلت فرقة اغتيالات إسرائيلية شابا مغربيا يدُعى أحمد بوشيخي، وهو نادل يعمل في مطعم في بلدة ليلهامر النرويجية الصغيرة الهادئة، ظنا منها أنه الناشط الفلسطيني أبو حسن سلامة، أحد أبرز قيادات منظمة "أيلول الأسود" الفلسطينية، في إطار سلسلة عمليات استخباراتية أطلق عليها "غضب الرب"، وأقرتها آنذاك غولدا مائير، رئيسة وزراء الاحتلال.
وبحسب الوثائق البريطانية، التي نقلتها "بي بي سي"، فإن الفضيحة فجرت أزمة مكتومة بين النرويج والاحتلال الإسرائيلي وأثارت انزعاجا بالغا في أوروبا من "عمليات الانتقام الإرهابية" الإسرائيلية من النشطاء العرب في دول القارة.
واستهدفت العمليات تصفية العرب والفلسطينيين خاصة من منظمة أيلول الأسود، التي نجحت في قتل 11 رياضيا إسرائيليا في دورة الألعاب الصيفية في مدينة ميونخ الألمانية في أوائل شهر أيلول/ سبتمبر عام 1972. وكان سلامة ـ الذي وصفته أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بالأمير الأحمر، هو العقل المدبر للعملية التي هزت العالم.
وبحسب الوثائق، فإن أعضاء فرقة الاغتيالات الإسرائيلية اعتقلوا، لكنّ اثنين منهم اختبأا في شقة مسؤول أمن السفارة الإسرائيلية في العاصمة النرويجية أوسلو. ودخلت الشرطة النرويجية الشقة وقبضت عليهما. ثم طردت الحكومة لاحقا المسؤول الأمني بالسفارة من النرويج.
وتقدم الاحتلال الإسرائيلي باحتجاج قانوني ودبلوماسي، بأنه لم يكن من حق الشرطة النرويجية دخول الشقة "لأن صاحبها يتمتع بالحصانة الدبلوماسية"، فيما النرويج رفضت، بحسب الوثائق، الحجة الإسرائيلية وأبلغت إسرائيل بأن قانونها الوطني لا يسمح بـ"إساءة استغلال" الحصانة الدبلوماسية، في ارتكاب جرائم.
ولاحقا، قضت المحكمة العليا النرويجية بأنه ليس من حق الدبلوماسي إساءة استغلال الحصانة في خرق القانون النرويجي، وقضت باستمرار احتجاز العميلين الإسرائيليين، اللذين اعتقلا من شقة الدبلوماسي الإسرائيلي.
ورغم محاولات إسرائيل، بعد فشل العملية، إبعاد الشبهة عنها، فإن الإدارة العامة للشؤون القانونية في الخارجية النرويجية أبلغت السفير البريطاني في أوسلو باعتراف إسرائيل للنرويجيين بأنها وراء العملية، بحسب تقرير للسفير.
وقالت الإدارة: "اضطر الإسرائيليون لأن يقروا ضمنيا وعمليا بأن اغتيال بوشيخي كان عملية إسرائيلية رسمية".
وأبلغ القائم بأعمال رئيس الإدارة السفير البريطاني بأن الإسرائيليين "دافعوا بالقول بأن إقدامهم على عمل من هذا النوع له ما يبرره"، فيما وصف هذا الدفاع بأنه "غير مقبول على الإطلاق لدى النرويجيين".
وأشار المسؤول نفسه إلى أن "السلطات النرويجية مقتنعة بأن العملية خطط لها رسميا، وأنها على علم بأن بعض المشاركين فيها هم بالتأكيد موظفون إسرائيليون رسميون".
وتردد أيضا حينها أن النرويج "طلبت من إسرائيل سحب مسؤول الأمن في سفارتها بهدوء"، إلا أن المسؤول القانوني نفى صحة هذه المعلومة، وأكد أن النرويجيين "هم الذين قرروا إعلان المسؤول القانوني شخصا غير مرغوب فيه بسبب ضلوعه الواضح في الاغتيال".
وعلق السفير البريطاني قائلا: "تولد لدي انطباع بأن قرار (طرد المسؤول الإسرائيلي) قد اتُخذ بسرعة"، من جانب النرويجيين.
في هذا الوقت أيضا، أثيرت تساؤلات عن كفاءة جهاز "الموساد"، الذي اشتهر بعمليات كثيرة استهدفت قادة فلسطينيين خارج فلسطين.
ولما سأل السفير البريطاني المسؤول القانوني النرويجي عن تفسيره لأسباب فشل العملية الإسرائيلية، أشار إلى أن "المشكلة لم تكن فقط في الخطأ في تحديد الهدف، بل كذلك الدفع بعدد كبير من العملاء (15 شخصا) لملاحقته في بلدة نرويجية صغيرة كان من الصعب ألا يلفت وجودهم فيها الانتباه".
وكان من بين هؤلاء الـ15 بريطانيون وآخرون استخدموا جوازات سفر بريطانية مزورة.
وقال السفير البريطاني إنه ما لم يستطع المسؤول الأمني النرويجي فهمه "هو لماذا لم تذهب المجموعة، بعد أن حددت مكان بوشيخي، إلى أوسلو أو أي مكان آخر حيث يكون لديهم فرص الاختفاء عن الأنظار، ثم ترسل واحدا أو اثنين من أفرادها لتنفيذ الاغتيال؟".
وبعد محاكمة جنائية، فقد أدانت المحكمة العليا النرويجية خمسة إسرائيليين بتهمة المشاركة في العملية وصدرت أحكام بسجنهم، غير أنهم قضوا جزءا منها فقط ثم صدر عفو عنهم.
وتكشف الوثائق أن هذه الحلقة الفاشلة من سلسلة عمليات "غضب الرب"، أثارت قلقا بالغا في أوروبا، خاصة في إيطاليا وفرنسا وبريطانيا.
فبعد أيام من العملية، أبلغ القائمان بالأعمال الإيطالي والفرنسي نظيريهما البريطاني في إسرائيل "بالقلق الذي يساور حكومتيهما بسبب الطريقة التي يستخدم بهما رجال حرب العصابات الإسرائيليون والعرب أراضي الدولتين في حربهما السرية المتبادلة".
وفي ما يتعلق بإسرائيل، فإن الاعتراض الإيطالي الأساسي كان هو "عدم حرص" استخباراتها في تنفيذ العمليات التي تستهدف العرب في إيطاليا وأوروبا.
ووفق تقرير للقائم بالأعمال البريطاني، فإن نظيره الإيطالي قدم احتجاجا غير رسمي إلى الخارجية الإسرائيلية.
وأضاف أن الدبلوماسي الإيطالي "أبلغ الخارجية الإسرائيلية بأن الحصانة النسبية التي يتمتع بها الإسرائيليون حتى الآن في تنفيذ عمليات الانتقام التي يشنونها في إيطاليا ضد العملاء العرب ربما لا تستمر ما لم يتوخ الإسرائيليون قدرا أكبر من الحرص".
ورغم أن الدبلوماسي الإيطالي أكد، بعد أن قدم الاحتجاج، أن الإسرائيليين "تعاملوا مع التوجه الإيطالي بأكبر قدر من الجدية"، فإنه أسر إلى نظيره البريطاني بأن الخارجية الإسرائيلية أبلغته بأن "الممارسات الإسرائيلية مبررة على الأساس الآتي: نظرا لأن الحكومات الأوروبية متساهلة بدرجة كبيرة في تعاملها مع رجال حرب العصابات العرب، الذين تعتقلهم، فإن إسرائيل وجدت نفسها مدفوعة لأن تنفذ القانون بنفسها بقدر ما دفاعا عن النفس".
ومع ذلك، فإن الخارجية الإسرائيلية "لم تقل إن التحذيرات الإيطالية سوف تُتجاهَل".
وكشف الدبلوماسي الإيطالي عن أن حكومته "شعرت بأن صدمة الإسرائيليين الناتجة عن أثار عملية ليلهامر هي لحظة مناسبة للضغط عليهم كي يكونوا أكثر حرصا في (العمل في) إيطاليا".
غير أنه لم يوضح المقصود بهذا الحرص.
أما فرنسا، فقد أبلغ القائم بأعمال سفارتها في تل أبيب نظيره البريطاني بأن هناك "استياءً متناميا في الإليزيه (قصر الرئاسة الفرنسية) من الحصانة التي يتمتع بها العملاء السريون الإسرائيليون في فرنسا".
فقبل أسابيع قليلة من فضيحة ليلهامر، اغتال عملاء إسرائيليون الفنان الجزائري محمد بودية، الناشط السياسي في حركة النضال الفلسطيني وأحد قادة منظمة "أيلول الأسود"، في العاصمة الفرنسية.
وتؤكد الوثائق أن الاغتيال "كان صدمة لكثير من الناس في باريس لأنه كان معروفا في عالم الفن اليساري".
وبحسب القائم بالأعمال الفرنسي، فإن "الشرطة الفرنسية كانت لها وسائلها الخاصة (في التعامل مع الجريمة) ولم يكن سهلا حتى على الحكومة الفرنسية أن تتحرك".
ولم يُنقل عن الدبلوماسي الفرنسي تفسيره لذلك، غير أنه قال إن الفرنسيين "كانت لديهم أسبابهم لعدم رغبتهم في اعتقال القتلة الإسرائيليين أو العرب إذا أمكنهم تجنب ذلك".
غير أنه قال إن الرئيس الفرنسي حينذاك جورج بومبيدو "قد يصر على تغيير" هذه الطريقة.
في هذه الأجواء، كان التقييم، الذي نصح به القائم بالأعمال البريطاني حكومته لحالة الإسرائيليين، سلبيا.
وقال: "المتصور أن الإسرائيليين يواجهون مشكلات أكثر صعوبة الآن في تنفيذ عملياتهم المناهضة للإرهاب نتيجة ما يُعتبر عموما هنا خطأ أحمق فادحا اقترفه فريقهم في النرويج".