يحتلّ لينين مكانة مرجعية في التنظير الثوري، طغت في حقبة زمنية على مساحة العالم كلّه، وبالرغم من انهيار الاتحاد السوفييتي، وتراجع اليسار، ومن ثمّ أطروحاته الثورية الكلاسيكية، فإنّ استعادة لينين، في سياق المراجعات النظريّة للإمكانيات الثورية في الواقع، تبقى قائمة باستمرار، إذ لا يمكن التجاوز عن الجهد النظري والعملي وما تلاه من منجز واقعي للينين، فضلاً عن ضخامة الاستجابة المستلهمة لذلك الجهد على مستوى العالم، مما يجعل منجزاً كهذا مهمّاً، في إمكان صياغته من جديد، للإجابة على الأسئلة الحائرة، حول إمكانيات التغيير، أو المطالبات المغرورة باستشراف الثورات، أو ضمان حتميتها!
في مقالته الشهيرة "بم نبدأ؟"، لم يجزم لينين بالظروف التي سينبثق عنها التغيير، هل سيسقط الحكم المطلق من جراء حصار محكم أو هجوم منظم؟ أم سيسقط تحت ضغط إحدى الانفجارات العفوية أو التعقيدات السياسية غير المتوقعة التي تتهدده على الدوام من جميع الجهات؟ وبالرغم من أنّ التجربة التاريخية تفيد رجحان سقوطه بواحدة من هذه الانفجارات غير المتوقعة، فإنّه لا يمكن للحزب، بحسب لينين، أن يبني نشاطه على أمل حدوث هذه الانفجارات والتعقيدات غير المتوقعة، وإنما عليه أن يستمرّ في نشاطه المنظّم، بحيث يقلّ اعتماده على المفاجآت، حتى لا تباغته تلك المفاجآت حين حصولها.
كيف لأحد أن يتوقع التوقيت الدقيق لواحدة من هذه التعقيدات غير المتوقعة؟ وهو ما يذكّر بما قيل عن نقاش داخل إدارة أوباما، حينما سأل الأجهزة المختصّة عن فشلها في توقع "ثورة يناير"، فأجابت بأنه طوال حكم مبارك كانت شروط الثورة قائمة، ولكنها لم تحصل، فكيف لها أن تتوقّع حصولها في هذا التوقيت بالذات؟!
بالإضافة إلى الجانب الجدلي، بين دور الحزب في الدفع نحو الظروف الثورية وإنضاجها، من خلال الدعاية السياسية، والعمل المنظّم، والاتصال العميق بالشرائح الاجتماعية المرشحة للنهوض بالعبء الثوري، وبين احتمال الانفجارات التي من شأنها أن تسقط الحكم، يلحّ لينين على أن الانفجارات بما هي عفوية، فإنّها غير متوقعة، غير متوقعة من حيث الحتم والتوقيت، وليس من حيث الإمكان المرجّح، وذلك لأنّ الانعطافات التاريخية، حسابها على الصعيد التاريخي العالمي يجري بعشرات السنين، كما يقول في كراسته "مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية"، فكيف لأحد أن يتوقع التوقيت الدقيق لواحدة من هذه التعقيدات غير المتوقعة؟ وهو ما يذكّر بما قيل عن نقاش داخل إدارة أوباما، حينما سأل الأجهزة المختصّة عن فشلها في توقع "ثورة يناير"، فأجابت بأنه طوال حكم مبارك كانت شروط الثورة قائمة، ولكنها لم تحصل، فكيف لها أن تتوقّع حصولها في هذا التوقيت بالذات؟!
ينقل ذلك إلى جدلية أخرى، بين الشروط الموضوعية لحصول الشيء، وحتمية حصوله حين توفّرها. إذ ثمّة غياب لملاحظة الشروط الموضوعية الأساسية الضرورية لحصول الثورة، أو الانتفاضة. وقد ناقشت هذه القضية مراراً طوال السنوات الماضية، في الإنكار على التبشير بـ، أو التساؤل عن الانتفاضة الشاملة في السياق الفلسطيني، ليس فقط لأنّ التاريخ النضالي لا ينحصر فيما بات يحيل إليه الاصطلاح والتجربة التاريخية من مفاهيم "الانتفاضة" و"الثورة"، مما يورث يأساً حين انعدامهما بعد التبشير بهما أو بعد طول التساؤل عنهما، ولكن أيضاً لأنّ هذه الأحداث الكبرى لا تبزغ في الفراغ، ولكن حين تضافر الشروط الكافية لبزوغها، كما أنّ مجرد بزوغها، لا يعني بالضرورة استمرارها ونجاحها.
ولا يقلّ عن ذلك أهمّية، أنّ توفّر الشروط الأساسية لا يعني حتميتها، من جهة لأن الحساب في التاريخ البشري يستهلك عشرات السنوات لا الشهور والسنين القليلة، ولأنّ الشروط لا تنحصر في الأساسية منها، كما أنّ السياقات الخاصّة بالمجتمعات ومراحلها التاريخية، تستدعي كذلك شروطها الخاصّة، التي قد لا تكون محصّلة من قبل في التجربة التاريخية لهذه المجتمعات. فكيف والشروط الأساسية، المحصّلة أساساً بالتجربة، تغيب كثيراً عن السجالات والنقاشات؟
لا يمكن الحديث عن التغيير دون بنى على الأرض، ولا يصح انتظار التعقيدات المفاجئة أو الانفجارات العفوية لتحقيق البنى على الأرض
ما لا ينبغي أن يغيب، والحالة هذه، من حيث القراءة، هو السياق، أي كيف نرى المشهد في عمومه، من حيث جملة العناصر الفاعلة أو المؤثّرة فيه. وهذا يستدعي بدقّة تحديد الفاعلين، وطبائعهم وخصائصهم وسماتهم، وتوقّع تصرّفاتهم في إطار ظروفهم الخاصّة والعامّة وعلى ضوء الخبرة التاريخية بهم، وفي حدود الوعي بارتباطاتهم العضوية ومصالحهم، ويتلو ذلك الخطط المرنة، التي تتسم تكتيكاتها بالمرونة، لكن يسبق ذلك كلّه وجود التتنظيم الذي يملك رؤية، أي يعرف بالضبط ما الذي يريده في النهاية، حتى لا يتورط في انطماس الحدود بين الاستراتيجيا والتكتيك.
إنّه، إذن، لا يمكن الحديث عن التغيير دون بنى على الأرض، ولا يصح انتظار التعقيدات المفاجئة أو الانفجارات العفوية لتحقيق البنى على الأرض. في الأحوال كلّها لا بد من عملية بناء مستمرّة ذكيّة، تلاحظ مشاكل الواقع، للتحايل عليها، حتى لا تصبح عمليات البناء حالة مستمرّة من الاستنزاف المهلك، لقوى التغيير أو للمجتمع نفسه، وبما يبعث على اليأس في نهاية المطاف. هذه البنى في حالة الركود، أو هبوط المعنويات الثورية، هي التي ستتولّى، أيضاً بمرونة وفي حدود الوقائع على الأرض، إنضاج الشروط المطلوبة للتغيير، وفي حال حصلت التعقيدات والانفجارات المفاجئة سوف تكون جاهزة لقيادتها، أو على الأقل توجيهها، أو الاستفادة منها.
تكشف تجربة الدعوات لمظاهرات في الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي في مصر، هذه الإشكالية التي تخلط بين الدعاية السياسية التي لا بدّ منها، وبين الفعل على الأرض، وبين الأدوات الوسيطة التي هي "السوشال ميديا" وبين الميدان الحقيقي والفعلي، كما أنّها تغفل تماماً عن الشروط الموضوعية لحصول مظاهرات
تكشف تجربة الدعوات لمظاهرات في الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي في مصر، هذه الإشكالية التي تخلط بين الدعاية السياسية التي لا بدّ منها، وبين الفعل على الأرض، وبين الأدوات الوسيطة التي هي "السوشال ميديا" وبين الميدان الحقيقي والفعلي، كما أنّها تغفل تماماً عن الشروط الموضوعية لحصول مظاهرات كافية لبلوغ درجة حرجة، وتعيش في وهم تكرار التجربة، دون ملاحظة الوعي العام المكوي من السلطة ومن التجربة الماضية (ثورة يناير وتداعياتها)، ودون ملاحظة غياب البنى على الأرض، التي يمكنها افتتاح الحشد، أو يمكنها قيادة الحشد العفوي إن حصل، والأخطر من ذلك هو انحصار الخيال والآمال في الثورة.
وهنا ينفتح السؤال الكبير: ما هو دورك وفعلك في حال تأخرت هذه الثورة عشرات السنوات؟ هذا هو السؤال الأصعب، وإجابته أصعب، لأنها تتطلب العناصر الثلاثة المذكورة سابقاً: التنظيم، الرؤية، الخطة، لا دعوة الجماهير للنزول إلى الشوارع، ولا دعوتها مثلاً للزحف والرباط في المسجد الأقصى، كما في السياق الفلسطيني.
أخيراً، يجب أن يعلمنا ذلك شيئاً من التواضع، وهو أن التوقع الدقيق غير متاح غالباً. لا يعيب أحداً، كاتباً كان أم مثقفاً أم خبيراً أم فاعلاً سياسيّاً، أنه عاجز عن توقع التوقيت الدقيق لانفجار الجماهير، أو شكل المشهد القريب، لكن يعيبه الغفلة عن عموم السياق، وغياب الوعي بالشروط المطلوبة، ويعيب الفاعل تحديداً ألا يكون مستعدّاً لأيّ تحوّل مفاجئ، ويعيبه أكثر المكث في انتظار المفاجآت!