يبدو أن تآكل الدولة العبرية من داخلها قد بدأ بشكل تلمسه اليد، وتراه العين، وتدركه بصيرة العارفين. التآكل والتشقق ليسا ادعاءً ولا حديثًا في الأماني، بل هو واقع موضوعي يتحدث عن نفسه بنفسه من خلال محطات مختلفة ومظاهر متعددة، ومنها ما جاء على لسان المعارضين لنتنياهو من قادة الأحزاب، وضباط متقاعدين من الخدمة في الجيش. وهنا يجدر أن ننقل كلامهم للقارئ الفلسطيني لنؤكد له أن ما نتحدث عنه ليس من الأماني، بل هو واقع يتسق مع معطيات تاريخ الأمم حين تصل الأمة لحالة تعلو فيها قمة، ولا قمة بعدها، كما يقول المؤرخ الفذ ابن خلدون رحمه الله.
١- المعارضة الإسرائيلية التي تضم (لابيد، وغانتس، وليبرمان، وميراف ميخائيلي، ومنصور عباس) تصف حكومة نتنياهو بحكومة (الظلام) التي ستعمل على تفكيك (إسرائيل) من الداخل.
٢- غانتس يناشد الأرثوذكس المتطرفين قائلا: "سوف تتأذى (إسرائيل) أكثر بسبب العنصرية والإكراه اللذَيْن تروجون لهما، وإن الإفلاس الديمقراطي الاجتماعي والأمني والاقتصادي الذي نشهده سوف يقضم قلب البلاد، وكذلك يهوديتها".
٣- يوجد ١١٩٧ ضابطا من الذين خدموا في الجيش، ومنهم (دان حالوتس، وإيتان بن إلياهو، ونمرود شيفر، وعاموس يدلين، وران كورين) قدموا رسالة عاجلة إلى رئيسة المحكمة العليا، والمستشارة القانونية للكنيست، طالبوا بوقف عملية (تدمير الديمقراطية) التي أصبحت في خطر، وقالوا: أنتم خط الدفاع الأخير عنها، نتوقع منكم استخدام جميع الأدوات القانونية الموجودة تحت تصرفكم بلا خوف. افعلوا ما في وسعكم لوقف الكارثة التي تعصف بالبلاد".
٤- تعهد قادة الأحزاب في المعارضة في بيان مشترك بالعمل معًا لإسقاط حكومة نتنياهو الجديدة.
هذه المعطيات تشير إلى وجود صراع داخلي يتبلور بقوة بين القوى التي تقود المجتمع الصهيوني، والجديد في ظاهرة الصراع هذه أمران:
الأول هو التكتل الحزبي، إذ توجد كتلة نتنياهو وتضم اليمين والأرثوذكس، وكتلة المعارضة، وفيها يمين ووسط ويسار. وكل تكتل يلعن الآخر، ويرى فيه خطرا على البلاد، وهذه الحالة لها تداعياتها.
والأمر الثاني أنه لأول مرة نسمع لغة قوية ضد حكومة الأرثوذكس واليمين في (إسرائيل)، لغة تقول لهم: أنتم ظلاميون! وأنتم خطر على البلاد! ويجب علينا أن نسقط حكومتكم لنحمي الديمقراطية والبلاد من أمراض التآكل الداخلية. ولأول مرة تستعين أحزاب المعارضة بالقضاء والمؤسسات المحايدة وتطالبها بالتدخل لوقف الخطر على الديمقراطية وعلى البلاد!
هذه المعطيات العبرية هي عندنا دليل على بداية تآكل الدولة من داخلها، وبداية أفول سطوتها وسيطرتها، وهذا الأمر سيتسع لا محالة، بشرط ألّا تقدم دولة عربية حبل إنقاذ لهذا التآكل بالذهاب إلى التطبيع مع نتنياهو، بذريعة حماية الضفة من الضم، بل العكس هو المطلوب، يجب أن ترفض الدول التطبيع، وأن تتشدد في الشروط لتعمق الصراع بين الكتلتين، فتتفاقم أزمة الاتهامات، والاتهامات المتبادلة. ويجدر بالسلطة والفصائل أن تضع هذا في حساباتها، وأن تخطط له، ومن الخطأ أن نستصغر دورنا نحن الفلسطينيين في هذه المسألة.