عمره تجاوز الستين ، علا رأسه " الشيب والصلع " ، بدا من الوهلة الأولى ميسور الحال ، مرتاح البال، لكن سرعان ما انكشفت حقيقة ذلك الرجل صاحب وجه "مبتسم" ، أخفى خلفه " مرارة الأيام وعذابات السنين". ساعة من الزمن أو يزيد قضيتها معه ، في جلسة سمر بلا موعد مسبق ، وكأن القدر ساقه إلي ، علمت خلالها كم هي الحياة قاسية لا يعين عليها إلا الله ، كما يقول "صاحبنا أبو المنذر. عاش أبو المنذر جُل حياته ، متنقلا بين بلاد الله الواسعة ، عربية وغربية ، ذاق خلالها طعم الحياة ، وتنعم برغد العيش ، تزوج من فلسطينية جزائرية ، أنجب من الأبناء ستة " ذكورا وإناثا" ، لم يرد لهم الغربة التي عاشها بعيدا عن وطنه ، فعاد ، ولسان حاله يقول" ليتني لم أعد" ، لكن قدر الله نافذ. قلت ساخرا " لم يبق على الدولة سوى أيام وتأت " ، فاجأني " أي دولة وأنا لا أملك بيتا أعيش فيه " ، سكت قليلا وسلم أمره لله. هنا تكشف خيوط " حياته المرة " ، قال أنه منذ أن جاء إلى وطنه ، واستقر به الحال في رفح ، لم يهنأ في بيت يملكه كغيره ، بل تنقل بين الحارات والأزقة والأحياء ، مستأجرا ، يضيف " هذا الاستئجار هلكني ومن بيت إلى بيت تزداد قيمة الآجار والناس لا ترحم ". قلت في نفسي من يراك من بعيد " لا يعرفك من قريب " ، تذكرت قول الحبيب " ارحموا عزيزاً ذلّ، وغنيّاً افتقر، وعالماً ضاع بين جهّال". كيف تعيش إذن ، سألته فأجاب " على معاش لا يتجاوز 300 دولار " ، أكثر من نصفه يذهب أجرة لمنزلين ، له ولابنه المتزوج الذي انتهى عقد عمل كان يقتات من ورائه. ذهبت بعيدا سارحا في أبو أسامة وأبو حسام وغيرهم كثيرون يعيشون في شقق ، ذلك البرج في حيينا منذ نشأته قبل أكثر من خمسة عشر عاما. والأقسى من ذلك –يشكو أبو المنذر- هي المعاملة السيئة التي أحيانا قليلة يلقاها من " صاحب المنزل" ، أو أحيانا من " الجيران " من الصغار الذين لا يحسنون معاملة الكبار ، قلت " من يرى هم غيره يهون عليه همه ". قالها بمرارة " أين الحكومات منا ، أليس من حقنا أن ينظروا إلينا يعين الشفقة و الرحمة " ، أم هم فوق ونحن تحت " . سألته ماذا تطلب من المسئولين " قال توزيع قطع أراضي على المتضررين من الآجار ولا يجدون بارقة أمل في شراء أرض لو بيع بالتقسيط والمحررات موجودة " ، مشيرا إلى أنه وأمثاله" دفعوا في الآجار عبر هذه السنين أكثر من سعر أي أرض ". إلى هنا هذا ما شد انتباهي في حديثي مع أبو المنذر ، وقد لا يهتم هو بنشرها ، بقدر من يفرحه اهتمام المسئولين بشريحة كثيرة تعاني مثله ، وقد يكون كثير منهم ميسورين لكن البال لا يرتاح في بيت بالأجرة كما هو حال المتملك. هذا صوت "أبو المنذر" ، وكثير هم من يشكون ، فهل من آذان صاغية؟!.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.