حالة الهدوء المريبة التي رافقت اعتقال قوات الاحتلال الإسرائيلي فجر الخميس 25 مايو 2023 الماضي، للمطارد القسامي ماهر تركمان غوادرة "51 عاما"، تكشف عن عمليات ملاحقات طويلة وجهد جبار بذله جهاز المخابرات الإسرائيلي "الشاباك" حتى تمكن بعد نحو 9 أشهر من الملاحقة والمطاردة الساخنة، من الوصول لمن يوصف بأنه "العقل المدبر لعملية الأغوار المزدوجة التي وقعت في الرابع من أيلول -سبتمبر 2022، عقب إطلاق مجموعة فلسطينية مسلحة النار على حافلة تقل جنودا إسرائيليين في منطقة الاغوار، ومحاولة احراقها، ما أدى حينها إلى إصابة 6 منهم".
يقول شقيقه وليد تركمان لـ"فلسطين الآن": "يعود أصلنا لحي "واد برقين" القريب من مدينة ومخيم جنين، لكن والدي رحمه الله يملك بيتا قديما في الاغوار، حيث نعمل في تربية المواشي والرعي وانتاج الحليب والجبن، وقد اكسبت حياة البداوة أخي ماهر الرحمة والتسامح، لكنها ايضا علمته القوة والقسوة تجاه الظالمين، حيث أنه جريء ولا يخشى المواجهة منذ صغره.
ويشير إلى أن قبضة الاحتلال وتضييقه على سكان الاغوار قديمة جدا، حيث يلاحق البدو ويمنعهم من الرعي ويمنع المزارعين من الزراعة ويصادر الأدوات التي يستخدمونها، وهذا ما خلق لديه حافزا للرد ولانتقام، فالاحتلال هو المسؤول الأول والأخير عن كل ما يقوم به الفلسطينيون من دفاع مشروع عن أنفسهم.
هذه الحالة فتحت مدارك الأسير القسامي تركمان الذي ولد عام 1972 قرب مدينة جنين، حيث ظهرت عليه علامات الإقدام والتضحية مبكرا، فقد اعتقل لأول مرة قبل أن يتم الـ 18 من عمره، وتحديدا عام 1990 بعد اكتشاف مسؤوليته عن التخطيط لعملية نوعية بزرع عبوات مفخخة في الطريق الذي تسلكه قوات الاحتلال في مناطق الاغوار، حيث تمكن الاحتلال في اللحظات الأخيرة من ضبط العبوات الناسفة، ليصدر بحقه حكما بالسجن لأربع سنوات.
كانت تلك الفترة مصيرية بالنسبة لماهر، كما يوضح شقيقه وليد "أثرت تلك الفترة عليه كثيرا، وصقلت شخصيته، وشكلت تحولا في حياته حيث انتمى لحركة حماس، ولاحقا لكتائب القسام".
بعد 10 سنوات تماما، وتحديدا عام 2000، حاول ماهر استدراج ضابط مخابرات إسرائيلي وتصفيته، لكن العملية اكتشفت واعتقل إثرها لعامين في سجون الاحتلال.
ومع ارتباط تركمان بزوجته، وانجابه لسبعة من الأبناء (3 ذكور و4 إناث)، اعتقد من حوله أنه انشغل بالدنيا، لكن حب الجهاد ومقاومة الاحتلال كانت تعشعش في قلبه ووجدانه، وأقرب الناس له ومنهم زوجته لم تكن تلحظ أنه منخرط في المقاومة، حتى ضجت وسائل الاعلام باسمه، بوصفه العقل المدبر للنوعية النوعية في الاغوار، حيث أشرك معه نجله محمد ماهر تركمان وابن أخيه محمد وليد تركمان، وهما في العشرين من عمرهما.
وفقاً للتحقيقات التي نشرتها المواقع العبرية، فإن ماهر شرع في إعداد مخطّط العملية في نيسان 2022، أي قبل التنفيذ بنحو خمسة أشهر، حيث جهّز مركبة جيب "تندر"، وزوّدها بخزان وقود ومضخّة. وفي صباح يوم التنفيذ، قطع بها طريق حافلة غير مصفَّحة كانت تقلّ جنوداً من وحدة "كفير" لم يمضِ على التحاقهم بالجيش سوى أسبوعين، وأعطى إشارة إلى نجله وابن شقيقه بضخّ الوقود في اتّجاه الحافلة تمهيداً لحرقها، فيما بدأ هو بإطلاق النار على الجنود.
غير أن قاذفة اللهب لم تعمل، فيما حاول الرجال، بعدما أفرغوا ما لديهم من رصاص، التخلّص من الوقود والمضخة، لكنّ النيران اندلعت في السيارة التي كان الشابين يستقلانها، فأصيبا بحروق بليغة، سهّلت عملية تتبّعهما ثمّ اعتقالهما، بينما تمكّن تركمان الأب من الانسحاب من الأغوار، قبل أن يَظهر لاحقاً في جنين.
وفي منتصف تشرين الأول -اكتوبر 2022، أعلنت سلطات الاحتلال استشهاد أبن ماهر الأسير محمد، متأثرا بحروقه الشديدة، وما يزال ابن عمه في اقبية السجون رغم حالته الصحية الخطيرة ايضا.
قسامي وحدوي
وامتلك تركمان حسا أمنيا عاليا جدا، فلن يكن يظهر علنا، باستثناء يوم الاعلان عن استشهاده نجله حيث شارك في جنازة رمزية له في مخيم جنين، كما كان حريصا على عدم استخدام أجهزة الاتصال الحديثة لإدراكه سهولة تعقبها، كما تحدث قيادي في المقاومة من مخيم جنين لـ"فلسطين الآن"، مشيرا إلى أن تركمان حاز على احترام كافة المقاومين نظرا لخبرته الكبيرة في العمل العسكري من جهة، وكونه من أكبرهم سنا".
وأشار إلى ان ماهر كان متواضعا جدا، ويرضى بالقليل، ولا يتحرك من مكانه ولا يلتقي بكثير من الأشخاص إلا للضرورة البالغة، مع أخذ كافة الاحتياطات اللازمة، موضحا أنه خاض بنفسه عدة اشتباكات مسلحة من قوات الاحتلال الاسرائيلي خلال اقتحاماتها المستمرة لمخيم جنين.
وكشف القيادي في المقاومة أن الاحتلال وفي عدة مرات كان قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى تركمان واعتقاله، لكن العملية كانت تفشل في اللحظات الأخيرة، بعد نجاحه بالانسحاب من المكان.