بعد أن قصف الطيران الإسرائيلي أغصانها، وبعد أن مزقت القذائف أفرعها، وبعد ان أحرقت الصواريخ الإسرائيلية أوراقها، ظل الدكتور نبيل شجرة باسقة، جذورها مغروسة في الأرض، ورأسها شامخٌ في السماء، لم تهتز ثقته بالغد، ولم تتبدل مواقفه المبدئية من الصراع، ولم ينحنِ.
الدكتور نبيل لم ينكسر، ولم ترتعد مفاصلة، وهو يوسد رأسه ابنته وأولادها تراب خان يونس، كان يعرف واجباته الدينية والوطنية في التضحية والعطاء، وكل ما قام به، أنه طلب من المشرفين على الدفن، أن يضم ابنته وأولادها قبر واحد، وسجي جثمان ابنته، وفي حضنها اليمين طفلها، وفي حضنها الشمال طفلتها، ونامت ابنة الدكتور نبيل وأحفاده في حفرة واحدة، وتحت بلاطة واحدة.
ولم ينكسر الدكتور نبيل، ولم يجزع، وهو يغرس بعد أيام في تراب خان يونس أمه واثنتين من أخواته وأولادهن، وأخوه وزوجته وأولاده، وزوجة أخيه وأولادها، ومجموعة من أبناء عمه وبنات عمه، وأولادهم وبناتهم، حتى بلغ ضحايا ذلك القصف الإسرائيلي الإرهابي أكثر من 45 شهيداً من العائلة، يومها، خرج الدكتور نبيل من المقبرة واثقاً بأن إرادة الله غالبة، وإن مقتضيات الانتماء لهذا التراب المقدس تستوجب التضحية، وأن من بدأ الخطوة الأولى على درب الحرية، عليه أن يواصل المشوار.
ولم ينكسر الدكتور نبيل، ولم يرتعب وهو يدفن زوج ابنته الذي استشهد بعد أيام معدودات من استشهاد زوجته وأولاده، ليكتمل نصاب العائلة تحت التراب، دون عذاب الفقد والفراق.
ولم ينكسر الدكتور نبيل، ولم ترتجف عزائمه بعد أيام، وهو يدفن زوجة ابنه عاصم، وأبيها وأمها وإخوتها وأخواتها، وأولادها وبناتها، ومن بينهم نبيل الصغير، حبيب الدكتور نبيل، الذي لم يكل، ولم ييأس، ولم يتعب طوال يوم وليلة، وهو يفتش تحت ركام البيت المقصوف عن حفيدته سارة ابنة عاصم، التي أخرجوها بين الموت والحياة، ليتابع الدكتور نبيل شأنها في مجمع ناصر الطبي، فهي الوحيدة التي ظلت على قيد الحياة من أبناء عصام نبيل.
ولم ينكسر الدكتور نبيل، ولم يهرب من الأقدار، حين جاءه خبر استشهاد ابنه القائد الرائع عاصم، كان الدكتور نبيل يضم زوجته أم عاصم إلى صدره، يهدهد رأسها، ويواسيها، بعد أن صدمها الخبر، وهي تردد جملة واحدة، لقد استشهد البطل، لقد أستشهد عاصم، الحمد لله يا رب، لقد استشهد البطل، لقد استشهد عاصم.
لاذ الدكتور نبيل بالصمت، وأغمض عينيه لدقائق، قبل أن يعتصم بحبل الكبرياء والشموخ، ويحتضن رأس أم عاصم مواسيً، وعيناه تجولان بعيداً، تسرح في هذا الكون الشاسع، وكأنه يقرأ المستقبل، أو كأنه يسترجع الذكريات، ليقول لنا معزياً ومواسيً: لقد اختار ابني عاصم طريقه بقناعة راسخة، لقد ارتقى عاصم شهيداً كما تمنى، لقد سعى ابني عاصم إلى الشهادة بخطى واثقة، وعمل من أجلها بجد ومثابرة، لقد التحق بزوجته وأنباءه، وهو راضٍ، وأنا راضٍ بما رضي به ابني الشهيد عاصم.
كانت كلمات الدكتور نبيل دواءً لجرح الفقد النازف.
قبل أيام، كان الدكتور نبيل أبو شمالة يعيش لحظات الفرح الحزين، وهو يزف ابنه الصغير محمد 19 سنة إلى عروسه، وهو يقول لنا: سأحافظ على النسل، لن ننقرض عن هذه الأرض التي اطعمناها أولادنا وبناتنا وأحفادنا وأهلنا، لن نترك هذه الأرض التي عشقت الشهداء حتى احتضنتهم في أحشائها شوقاً، وهم الذين ذابوا في هواها، وعانقوها فرحاً وحباً.