﴿ ثُمَّ جِئتَ عَلى قَدَرٍ ﴾ طه40
إنه الصديق الصدوق، والأخ الحبيب، الدمث الوفي، الذي امتطى صهوة المجد منذ نعومة أظافره، عبر مراحل الدعوة والمقاومة والسلطة، بكل اقتدار وحكمة. إنه القادر على جمع الكلمة، وتبيان الموقف، وتفصيل التقاطعات، وإلهام الخطابة والتحريض والإدارة، في أوقات الأزمات، والحروب، والقتل، والدمار، وأيضًا في السياسة، بوعي حكيم بمساحة الفعالية، والتأثير، والممكن.
نعم، جاء من مخيم الشاطئ للاجئين مبكرًا على قدر، ليقود مسيرة صاخبة، مليئة بالوقائع والأحداث، تتلمذ بهدوء على أيدي الشيخ الإمام وعلماء وقادة التحرير، على مر أجيال سالفة، وتولى قيادة العمل الوطني في منعطفات حاسمة من تاريخ القضية الفلسطينية، ليعيش معه المشروع الفلسطيني تحولات كبرى دعويًا وجهاديًا. وفي كل ذلك، كانت هناك مراكمة للقوة بكل أشكالها، حتى غدت المقاومة معه في أعلى مقام، وتحولت إلى منظومة جيش.
ترجّل الفارس، الذي خاض مع شعب فلسطين أعظم ملاحم العصر، يرحل عن موقعه، وغزة التي كان جزءًا من قيادتها، وهي اليوم ملء السمع والبصر، تصنع التحولات الكبرى، وتسطر الوقائع التحريرية، وتبني فلسطين الوهج الذي لا ينطفئ.
يلتحق بأولاده وأحفاده وأهله، الذين زفّهم بكل شموخ وكبرياء، ويلتحم بهم مع الآلاف المؤلفة من أبناء شعبنا العظيم، مؤكدًا أنهم جميعًا على الطريق، مجددًا العهد مع الله عز وجل بأنه سيبقى على درب العظماء، من جيل القيادة المؤسس لمشروع تحرير فلسطين، الذي مضى على طريق ذات الشوكة.
إنها حكاية شهيد الأمة إسماعيل هنية، ليست نموذجا لرجل وحيد، بل قصة عشرات، بل مئات، من قادة العمل الوطني الفلسطيني، الذين ارتقوا شهداء في ملحمة الطوفان والمحرقة، في مصداق قول الله تعالى:
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} الأحزاب 23.
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ
﴿ وَحَبلٍ مِنَ النّاسِ ﴾
وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }آل عمران112
العدوان من عصابات الاحتلال مستمر في محاولات الإبادة، وهم لا يعيرون أي اهتمام للحق أو للبرهان أو للقانون أو للتاريخ أو الأعراف الإنسانية. الهدف واضح: أن يتمسكوا بالحق في أرض فلسطين ويطلبون منكم تركه والتسليم. هذا هو الهدف الخبيث للصهيونية، التي تستخدم التضليل والتزيين لتحرف الحقائق، وتقنع الجميع بأن فلسطين قد انتهت، وأنه لا مجال لانتصار في معركة أو خوضها. لكن لا، هدى الله هو الهدى، وآيات الله تتجلى فيهم، وما يملكون من ضلال.
فلسطين، القدس، والمسرى ليست للمواربة ولا للمساومة، ولا التفريط في شبر واحد من أرضها، ولا مهادنة مع المحتل. فحذار، يا شعب فلسطين! لا تتركوهم يضلونكم، فهم يريدون أن يحرفوا مسار التاريخ ويروّجوا لأكاذيبهم.
أما أمريكا، فقد ألقت بثقلها في محرقة غزة. وهذا ليس مجرد موقف سياسي، بل هو سلوك يميني عقدي يرتكز على نبوءات توراتية إنجيلية. أمريكا تظن أنها تنتسب إلى شعب الله المختار في انتظار المسيح المخلص، وتبني أحلامها على قيام دولة يهودية في فلسطين وعاصمتها القدس، وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاض الأقصى. هذه عقيدة يتبناها معظم رؤساء أمريكا، خاصة الذين ينتمون إلى الحزب الجمهوري المسيحي التوراتي المتطرف. هؤلاء، الذين تفاخروا بأنهم صهاينة، كانوا يسعون للتحول إلى اليهودية بالكامل، وكانوا وراء العديد من الجرائم ضد عالمنا العربي خدمة لليهودية وحماية "إسرائيل"، من إزالة دول كالعراق إلى إبادة غزة المستضعفة.
إنها مشيئة الله تعالى، الذي يجلب لليهود مددًا بحبل من الناس، وهو حبل مقطوع. كما قال الله تعالى في { وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ } (آل عمران 112)، وأكد في { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ } (البقرة 61). حبل الناس هو أمريكا، التي تقدم المساعدات التي لا تنقطع بكل أشكالها: في التفجير، والإبادة، والتدمير، وقتل الأرواح البريئة لشعب مظلوم.
ومن هنا، فإن أمريكا، بقيادة بايدن، ليست وسيطًا، بل شريكًا كاملاً في مجزرة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين. وبايدن هو أول من يدفع الثمن، فسقط سقوطًا مذلًا في نهاية حياته السياسية، ويُسقط معه حزبه الديمقراطي. كما سقط اليمين في فرنسا، وكما سقط سوناك وحزب المحافظين في بريطانيا، سيُسقط بايدن شخصيًا، وسيُسقط معه الحزب الديمقراطي، كبشارة لسقوط أمريكا. سيأتي قريبًا اليوم الذي سيتقطع فيه حبل الناس، وستبقى هذه العصابات دون مدد، ولا غوث، ولا حبل من أحد.
وحينها، ستعود الأمور إلى وعد الله بها، كما قال الله تعالى { وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } (الإسراء 7).