لم يكن بيان “المؤسسة الفلسطينية للتمكين الاقتصادي – تمكين” مجرّد إعلان إداري، بل بدا كأنه بلاغ رسمي بإنهاء إحدى آخر المسلّمات الوطنية، ومحاولة لإظهارها وكأنها ليست نموذجًا يُحتذى، أو خوفًا من إبرازها أمام الاحتلال على أنها ثمن للجريح على نضاله، وللأسير على سواد زنزانته، وللشهيد على عمره الذي سرقه المحتل.
بجملة باردة، خالية من أي ارتعاش أخلاقي، أعلنت المؤسسة وقف صرف أي مخصصات لعائلات الأسرى والشهداء والجرحى وفق التشريعات السابقة، وإلغاء نظام الدفعات المرتبط بعدد سنوات السجن “بشكل كامل ونهائي”، واستبداله بما سُمّي نظام “البحث الاجتماعي”!!
بحثٌ عمّن؟ وعن ماذا؟
عن الفقر فقط؟ أم عن الوطنية الزائدة عن الحدّ المسموح به سياسيًا؟!
القرار، كما رآه كثيرون، لا يحتاج إلى شرح مطوّل ولا إلى لجان تقييم. الغضب الذي تلاه كان فوريًا، حادًا، ومباشرًا.
الأسرى المحررون المبعدون وصفوه بأنه “جريمة سياسية وأخلاقية مكتملة الأركان”، لا إجراءً إداريًا ولا تعديلًا تقنيًا. فحين تُقطع لقمة عيش الأسير السابق أو أم الشهيد، لا يكون الأمر خطأً محاسبيًا، بل خيارًا سياسيًا واعيًا، يُنفَّذ بلغة ناعمة لإخفاء قسوته.
الأسرى قالوا بوضوح إن القرار طعنة مباشرة في قلب الحركة الوطنية الفلسطينية، وتنصّل فجّ آخر من دماء الشهداء، ومعاناة الجرحى، وصمود الأسرى الذين شكّلوا لعقود الضمير الحي لهذا الشعب.
فهل تُقاس سنوات الزنازين، والعزل الانفرادي، والتحقيق، والمرض، بمعايير “الاحتياج”؟
وهل يُعاد تعريف الأسير باعتباره حالة اجتماعية قابلة للتصنيف، لا رمزًا وطنيًا له مكانته وحقوقه؟!
الأخطر، بحسب كثيرين، ليس فقط في القرار ذاته، بل في الجهة التي أُنيط بها تمريره. مؤسسة تحمل اسم “التمكين”، لكنها في هذا المشهد بدت كأداة بيروقراطية مُسيّسة، تُستخدم لإعادة صياغة النضال الفلسطيني بلغة مالية وأمنية تُرضي الاحتلال ومانحيه.
لغة خالية من أي سياق سياسي، وكأن الأسرى لم يُسجنوا لأنهم واجهوا الاحتلال، بل لأنهم لم يجتازوا “اختبار الاستحقاق”.
ذوو الشهداء والجرحى لم يلجؤوا إلى المصطلحات المعقّدة. قالوا إن القرار طعنة في قلب القضية، وكسر لظهر عائلات قدّمت أبناءها دفاعًا عن فلسطين. ذكّروا بأن الأسرى ما زالوا في سجون الاحتلال يواجهون أقسى صنوف القهر والعذاب، بينما تُترك عائلاتهم في الخارج لمواجهة الجوع، والعوز، والقلق وحدها، بعد قطع ما كان يسند صمودها.
هذه الرواتب ليست صدقة ولا منّة، بل حق وطني وأخلاقي، وعهد قُطع مع من قدّموا أرواحهم وأعمارهم فداءً للأرض والحرية. المساس بها مساس بتاريخ النضال، وتنصّل من المسؤولية الوطنية، وانحياز واضح لسياسات الضغط والابتزاز.
وفي ذروة السخرية المُرّة، يُقدَّم القرار على أنه “إصلاح”.
إصلاح يبدأ بتجويع عائلات الشهداء، ولا يمرّ على رواتب الفاسدين!!
إصلاح يُلغى فيه معيار التضحية، ويُستبدل بنماذج “بحث اجتماعي” لا ترى في الأسير سوى رقم، ولا في الشهيد سوى حالة قابلة لإعادة التقييم.
هكذا، وبهدوء إداري لافت، تُدار واحدة من أكثر القضايا حساسية في الوجدان الفلسطيني. لا اعتذار، لا تردّد، ولا حتى محاولة خجولة للاعتراف بأن ما جرى ليس مجرد تعديل قانوني، بل زلزال أخلاقي وسياسي، لن تُطفئه بيانات، ولا تُقنع به عائلات ما زالت تدفع ثمن الدم والغياب حتى اليوم.
