في محل الصِّرافة يقف أبو يزن في الزاوية يدير وجْهَهُ للحائط، ويقوم بِعّدِّ رزمة من الدنانير موجودة بين يديه، ينقل اصبعه من النقود لفمه، ومن فمه للنقود...... اقتربت منه وقلت له: "خِيرْ يا طيِرْ" شِكلَك سارق لك سرقة جامدة... ملاقِي كنز؟! نظر إلِّي بوجه شَاحِب، مرفوع الحواجِبْ، كأن ناراً تخرج من عينيه...قلت في نفسي "لعل هذه النقود ليست له؟! لعلها دَيْن عَليهْ؟! .... سألته: خير يا "أبو يزن"؟! الفلوس اللِّي معاك لمين؟! قال: للفقَّاسَات!!... ضحكت، وقلت له: عنجد ناوي تفتح فقَّاسة؟! ضحك هو الآخر وقال: الفقَّاسَات مليانة في البلد؟! في كل مدينة "عَشَرْطَعْشرْ" فقاسة، وفروعها، وفي كل فقاسة "عَشَرْطَعْشَرْ" تخصص..... ومن سوء حظي عندي خمسة أبناء في 3 فقَّاسات؟! عَرفْتُ أنَّه يَقْصِدُ الجامعات، وأن ما لديه من مال هو رسوم لأولاده.... قلت له مُهَوِّنَاً عَلَيْه: غداً يا "أبو يزن" يتخرج الأبناء ويصبحون موظفين مثاليين وبياخدوا راتب "قَدْ إلِّي معاك عشر مرات" ..... قال لي: السُّوق طافسة ومليانة مهندسين وفنانين ومعلمين ومرشدين واداريين ومحاسبين، والجامعات زي الفقَّاساتْ كل سنة بتخرِّج آلاف الطلاب والطالبات، وبكافة المعدَّلات.... وفي النهاية ما في شغل!! وين بدهم يروحوا؟!... خليها على الله... وقبل أن يخرج من محل الصرافة قلت له: ضروري يعني يا "أبو يزن" يكون ولادك كلهم أطباء ومهندسين؟! وين المشكلة لو طلع منهم مقاولين ونجَّارين وسبَّاكِينْ.... "عليَّ الضَّمان" أنه السبَّاك عليه طلب أكثر من الدكتور!! وأكيد لازمك موعد معاه واثنين وثلاثة حتى يزورك ويِحْزِقْ لَكْ الماسورة بعشرين شيكل ...عيادة طبيب ها شو بتفكر؟! لم أكن أعلم أن أبو يزن يعمل موظفاً حكومياً في الصباح وسبَّاكاً في المساء -"بيطَقطِقْ"-... وقد قُلْتُ كلامي له لعلمي مسبقاَ أن هناك حاجة للتخصصات التطبيقية العملية وخريجي الصِّناعة، من بنائين وحدادين وفنيِّين وسباكين... وغيرهم في قطاع غزة، مع أن عملهم يتأثر في الرواتب ومواعيدها من الضفة وغزة، والرواتب تأتي من المساعدات والمنح من العالم الخارجي، ويتم جمركتها، وأخذ جزء منها عن طريق ضرائب يدفعها المواطن مثل المساعدات والمنح التي تأتي إلى "الفقَّاسات"... [title]- طيب وأنا مالي يا أبو يزن دع الخلق للخالق-[/title]