28.33°القدس
28.1°رام الله
27.19°الخليل
29.02°غزة
28.33° القدس
رام الله28.1°
الخليل27.19°
غزة29.02°
الجمعة 02 اغسطس 2024
4.83جنيه إسترليني
5.35دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.09يورو
3.79دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.83
دينار أردني5.35
جنيه مصري0.08
يورو4.09
دولار أمريكي3.79

من كتاب "مذكرات أسيير"

خبر: الأسير إبراهيم جندية .. أن تكون مريضا هناك

معادلة صعبة تلك التي نحياها داخل السجون؛ ففي العادة والطبيعي أن الإنسان إذا ما تألم بدا عليه ذلك وعبر عنه لغيره، واستشار المختصين وتناول العلاج ليشفى من هذا الداء. لكن الأمر مختلف تمامًا داخل هذه الزنزانة التي قُدر لي أن أحيا بداخلها ردحًا من الزمن؛ فالألم إذا ما حل بالأسير لابد أن يبدو متماسكًا حتى لو أدى به ذلك للموت دون أن يعطي السجان مساحة للشماتة أو فرصة ليتذلل له الأسير ليعطيه الدواء. كانت فترة صعبة تلك التي قضيتها في مسالخ التحقيق مشبوحًا، لكني لم أكن أتوقع في أسوأ الأحوال وأشنع السيناريوهات أن يحدث معي ما حدث. خرجت من غرف التحقيق إلى السجون، وبدأت أشعر بآلام في أقدامي بداية، كان الألم مبرحًا، حاولت الصمت والركون إلى الراحة بعض الشيء إلا أن الأمر لم يعد بالمقدور السكوت عليه. لكنني في السجن، ومعنى ذلك أن العيادة الموجودة هناك ليست لتخفيف الآلام وإنما زيادتها وقرنها بحالة نفسية سيئة تزيد من ألم الأسير وتضيف إليه آلامًا أخرى. إلا أن الغريق يتعلق بقشة؛ فآلامي أصبحت لا تحتمل، لم أعد قادرًا على الصبر والتحمل، فكانت عيادة السجن بمثابة القشة التي كنت آمل أن تنقذني من الغرق أكثر في أوحال الألم والمعاناة. توجهت إلى العيادة وقابلت الطبيب هناك وببرود أعصاب ولا مبالاة تفوق حدود الوصف، قال عبارة بتّ لا أطيق سماعها (ما عندكاش اشي) بمعنى أنني سليم وأشتكي كذبًا وزورًا وبهتاناً!! رفضوا في عيادة السجن تشخيص حالتي، أو نقلي إلى مكان مختص للتعرف على أسباب ألمي حتى فقدت القدرة على الحركة تمامًا، وأضحيت غير قادر على المشي، وأحتاج إلى المساعدة في كل أمور حياتي. فأصبحت غير قادر على تناول الماء إذا عطشت، غير قادر على الوقوف لأداء الصلاة ومناجاة ربي واقفًا كباقي إخواني، غير قادر على الخروج لساحة الفورة والسير لتحريك الدم في عروقي التي تجمدت بفعل قلة الحركة، ليس هذا فحسب بل لم أعد قادرًا على القيام لقضاء حاجتي وأصبحتُ بحاجة لمساعدة اثنين من إخواني للذهاب إلى مكان قضاء الحاجة. كانت فترة صعبة للغاية على نفسي، فهاهم إخواني يتحركون ويقومون رغم أسرهم، وأنا أسير الزنزانة وأسير عدم القدرة على الحركة، كانت فترة صعبة جدًّا اكتفى خلالها طبيب السجن بإعطائي مسكنات تطفئ قليلاً من نار الألم الذي يجتاح قدمي وظهري. ازدادت حالتي سوءًا وتحت ضغط إخواني الأسرى ومطالبتهم الدائمة بعلاجي، تم نقلي إلى مستشفى الرملة عبر رحلة لا أريد أن أروي تفاصيلها، فهي بحد ذاتها معاناة وإذلال يفوق الوصف ويعجز اللسان عن مجاراة أحداثه ومجرياته. عرضت على طبيب مختص، والذي ذهل بما رأى؛ فالمشكلة لدي كانت قد تفاقمت بعد مرور ما يزيد على ثلاث سنوات منذ بدء الألم، فالمشكلة عندي في خمس فقرات في العمود الفقري وقد تفاقمت جراء الإهمال وعدم العرض على طبيب مختص في وقت مبكر، ولا زالت كلمات ذلك الطبيب المختص ترن في أذني حتى اللحظة حين قال معقبًا على حالتي المزرية: "لو أنك حضرت إلينا من البداية لتم علاجك بصورة سهلة وبسيطة". دخلت معه في جدال، وبدأت أبرر له سبب تأخري مرجعًا ذلك إلى تباطؤ ورفض إدارة السجن لإخراجي من البداية للمستشفى، فأبدى الطبيب عدم اهتمامه وأخلى مسئوليته من القضية معتبرًا أنه فقط يتعامل مع الحالات التي تصله. بقيت في مستشفى الرملة شهرين كاملين، تلقيت خلالها الرعاية والعلاج، استعدت خلالها القدرة على المشي بشكل طبيعي. عدتُّ إلى السجن وكم كانت سعادتي غامرة أن عدت لإخواني، أقف على قدمي، وأستطيع الحركة والتنقل بشكل طبيعي، أروح وآتي، أقضي حاجتي، وألبي رغباتي بنفسي، بعدما فقدت القدرة على فعل ذلك وقتًا طويلاً وفترة ليست قصيرة كانت بمثابة قطعة من العذاب. لا يمكن لهذا المحتل إلا أن يمارس هوايته المفضلة في التنغيص على الأسرى والتنكيد عليهم لانتزاع الابتسامة من وجوههم، وقتل كل لحظة سعادة وفرحة، فقد بدأوا بعد فترة وجيزة من عودتي إلى السجن بمنع الدواء الذي يعتبر هامًّا لحالتي وكانت الحجة على الدوام أن الدواء غير متوفر في عيادة السجن. وبعد عام من خروجي من المستشفى عاودتني ذات المشكلة، وفقدت قدرتي على الحركة من جديد وتكرر نفس السيناريو من الذهاب للمستشفى وعدم القدرة على الحركة والعودة إلى السجن، وإيقاف العلاج عني مرة أخرى وتدهور الحالة مرة ثالثة. هنا كانت وقفة جادة وقفتها مع نفسي أنني لن أعود إلى المستشفى ولن أشكو مرضي لأحد منذ الآن؛ فقد وصلت إلى قناعة أنهم لا يريدون علاجي، بل يريدون استمرار مرضي حتى يقضي علي بالتدريج. بدأت مرحلة علاج نفسي بنفسي، وقمت بتنظيم حمية صحية لإنقاص وزني وممارسة بعض التمارين التي نصحني بها بعض الإخوة الأسرى المختصين، حتى أصبحت قادرًا على التحكم بآلامي دون الحاجة إلى سجاني كي يمن علي بالعلاج أو يوصلني إلى حالة أتوسل فيها إليه طلبًا لنقلي للمستشفى أو طلب حبة الدواء. نجحت في الحفاظ على صحتي واستعادة قدرتي على المشي بشكل طبيعي مع تحمل بعض الآلام التي بدأت تخف وتقل جراء الحمية والرياضة، وشكلت بذلك نموذجًا من نماذج الصمود والثبات أمام صلف السجان وظلم إدارة السجون.