23.02°القدس
22.68°رام الله
21.64°الخليل
26.75°غزة
23.02° القدس
رام الله22.68°
الخليل21.64°
غزة26.75°
الأحد 04 اغسطس 2024
4.88جنيه إسترليني
5.37دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.16يورو
3.81دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.88
دينار أردني5.37
جنيه مصري0.08
يورو4.16
دولار أمريكي3.81

قصة المحررة سناء شحادة (2) .. من كتيب مذكرات أسير

خبر: قصة سناء شحادة ..وقتلتني الذكريات

لن أبذل جهدًا في العودة إلى تلك الأيام، فذاكرتي مثقلة بالصور المتشابكة وما تلاها من خط عذابٍ أضاف إلى سنوات عمري الكثير.. كنت وحيدةً متعبةً، ينهشني ضعف الجسد ويقويني الدعاء فقط.. في بداية أيام اعتقالي وكما هو معهود نقلت إلى مركز تحقيق المسكوبية، صحيح أنه يقع في القدس ولكن حتى رائحة الشوارع العتيقة والحجارة المغبرّة وصوت الأذان وأجراس الكنائس لم تكن تصل إلى أيٍّ من حواسي، كنت أحيانًا أغمض عيناي وأوهم نفسي أنني في الأقصى مع والدتي كما اعتدنا، نجلس سوية نصلي ونسبّح ثم نخرج إلى الباحات ونرمي ثقل الأجساد تحت ظل شجرة.. ها هي نسمات الهواء تداعب طرف حجابي وتزيل آثار التعب عنا، وذاك منظر الصخور الضخمة التي شيد منها بيت الله تبهرني من جديد مع أنني أراها يوميًّا، وهناك في كبد السماء أشكال عشوائية بانتظام رسمتها طيور فوق القباب.. ثوانٍ فقط تتزاحم فيها تلك الصور بقوة إلى خيالاتي حتى أستفيق فجأة من حلم اليقظة وأنظر حولي فأجد سوادًا قاتمًا وكرسيًّا تحتي هو أداة تعذيبي، لا نافذة ولا هواء ولا نور سوى شيء صغير معلق من سقف الزنزانة يعطي ضوءًا أصفر مزعجًا، خافتًا أحيانًا وساطعًا أحيانًا أخرى.. آهٍ كم أحنُّ إلى بيتي وغرفتي الزاهية وسريري، كم أشتاق لقدسي وحاراتها المحشوة بالأمل.. أطلق زفرات من الغضب بين الفينة والأخرى وأغيب مجددًا في عالم الذكرى.. لم يكن المحققون يفرقون بين أسير وأسيرة فالفلسطيني واحد، كان أسلوب تعذيبي كما هو متبع مع بقية الأسرى يبدأ من شبحي على الكرسي مقيدة لساعات، ثم جولات من حرمان النوم وجيش من الحشرات يجتاح زنزانتي الضيقة.. أما عند الاستجواب فألوان من الأسئلة والتهديدات تتصادم أمام ذهني وتسبب لي صداعًا لا أجد له دواء إلا الاستغفار والدعاء.. وفي مرة من تلك الجولات أحضر المحقق هاتفًا محمولاً وطلب رقمًا كدت أجهله لولا بقايا حياةٍ في روحي.. ردّت سيدة خمسينية أعادني صوتها طفلةً تلهو بجدائلها، يا إلهي هل أصابت فيهم الرحمة موقعًا ليسمعوني صوت أمي؟.. صرختُ بلا وعي منادية عليها فتلعثمت ولم تدرِ أهي سناء ابنتها حقًّا أم لعبة مخابرات جديدة.. أسكتني المحقق وبدأ يردد على مسمعها كلماتٍ لم تخرج من دائرة التهديد.. ثم هزّ كياني بعبارة حاولتُ عدم تصديقها.. "خلال أيام سنهدم منزلكم فأخلوه على الفور". أعادوني إلى زنزانتي وعقلي معلق مع المكالمة والتهديدات، هو ما أرادوا فعلا أن يحدث لي من تيهٍ وقلق وتخبط.. حاولت إقناع نفسي بأن هذا أسلوب وضيع لمخابرات المحتل، ولكن الشكوك التي تشبثتُ بها تبددت حين أسمعوني مكالمة أخرى والجرافات تحيط بمنزلنا وصراخ أمي وتمتمات أبي تملأ أجواء المكان.. كم غريب هذا الشعور بالضيق، وكأنه إنسان آخر يحاول خنق أنفاسي واعتلاء قمة معنوياتي لتحطيمها كالتماثيل.. ذرفت الدموع كثيرًا وأنا أستمع لصوتهما وأتخيلُ المشهد القاسي.. فمنزلي يحمل لديّ أهازيج خاصة لا يمكن أن تترجمها الكلمات.. كنت في الدقيقة الواحدة أحشو ذاكرتي بمئات الصور التي علقت فيها لذاك المنزل؛ غرفتي وجدرانها الزاهية، والساحة الأمامية تظللها أوراق الدوالي، والشجرة الكبيرة وكم حفرنا أسماءنا على جذعها، كرسي القصب المفضل عند أبي وحتى إبريق الشاي القديم.. كل تفصيل في البيت كان يتراءى إلى ذهني ويصحب معه شجون الحنين والحزن سوية.. لم يفارقني صوت أمي وهي تدعوني ألا أعترف بشيء رغم أن الجرافة كانت تتوقف على باب المنزل، كانت تحاول التظاهر بالعزم بينما تفضحها حشرجة الصوت المجروح، ولم يفارقني أيضًا الشعور بالذنب والمسؤولية عن كل ذلك، ولكنّ الله ألهمني أن أقرأ آيات من كتابه خففت عني الحزن قليلا وأبعدت القلق خطوات صغيرة.. وبقيت على هذا الحال لأيام ولا يعلم بي إلا من خلقني، أحارب النعاس وأشرب الماء فقط كي تروى عروقي المتعبة، بينما كاد رأسي ينفجر من كثرة التساؤلات والتفكير الذي أرهق خلاياي وأعصابي.. حتى جاء يوم علمت فيه أن العائلة استطاعت منع أمر الهدم بالركض في الأروقة القضائية الصهيونية العوجاء.. حينها كانت نار المحققين بردًا وسلامًا عليّ، أحسست بكبرياء الفلسطيني وعزة المؤمن وسناء المخلصين.. سجدتُّ لله شاكرةً وتساقطت دموعي على أرضية الزنزانة وأكاد أجزم أنها حفرت خطًّا رآه مَن بعدي..