21.91°القدس
21.55°رام الله
20.53°الخليل
26.11°غزة
21.91° القدس
رام الله21.55°
الخليل20.53°
غزة26.11°
الأحد 04 اغسطس 2024
4.88جنيه إسترليني
5.37دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.16يورو
3.81دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.88
دينار أردني5.37
جنيه مصري0.08
يورو4.16
دولار أمريكي3.81

خبر: ذكرياتٌ من "مقابر الأحياء"!

"في غياهبِ سجون الاحتلال رجالٌ وحرائر في ريعان الشباب.. أُجبرنا جميعًا على العيش هناك.. في عالمٍ لا يُرى فيه غير السواد.. سماؤُه ظلماء بلا نجوم أو قمرٍ.. معتمٌ ليلُه ونهارُه سواء.. أرضُه ساحةٌ ضيقة.. هواؤُه رائحةٌ كريهة.. في النهاية هو عالمٌ اختطف زهراتِ شبابِنا إلى الأبد. لكن دعني يا صاحِ أحدثكم عن تجربتي في "مقابر الأحياء".. فأنا "محسوبكم" فرسان خليفة، من مخيم عين شمس، اُعتقلت في السابع عشر من أبريل 2003، بتهمة انتمائي لكتائب القسام -الجناح العسكري لحركة حماس- وإيصال شابين لتنفيذ عملية استشهادية في العمق الصهيوني، في أرضنا المحتلة عام 48، وقد حكم عليّ حينها بالسجن 20 عامًا. تنقلت في فترة سجني إلى عدة سجون.. لا يعرف سجّانوها شيئًا سوى القهر والإذلال، وقد كان لي أخوان في الأسر، أحدهما يتبع لحركة الجهاد الإسلامي في "قسم 7"، وآخر يتبع لحركة فتح في "قسم 2"، وأنا في "قسم 5" بسجن رامون.. لم نجتمع سويًّا ولو مرة واحدة.. أشقاء لكننا في السجون متفرقون، وكأن كل واحد منا من كوكب آخر.. لقد أبت إدارة السجون إلا أن تكون إدارة احتلال معدومة الإحساس والمشاعر. آهاتٌ وآلامٌ تكتمها جدرانُ سجنٍ لا تعرفُ لنفسٍ إنسانيةٍ أيّ قيمة.. هي ديدنُنا في سجونٍ أنهكت نفوسَنا دون رحمة.. مقيتةٌ إلى درجةِ اللانهاية.. خلف الجدرانِ نحتفظُ في صدورِنا بآلامِ المرضِ الموجعة.. تضيقُ الصدورُ من قسوةِ الحياةِ في غرفٍ معتمةٍ أمامها سجانٌ غليظٌ شديدُ القسوةِ باع قلبَه قبل الدخول.. دموعُنا تتساقطُ في خِفيةٍ عزةً لنفوسٍ لم تجدْ أحدًا في وقتٍ هي بحاجةٍ إلى الجميع. لكن، مِحنةٌ مثل تلك تلازمنا منذ عشرات السنين تحوّلت إلى منحةٍ، والسجنُ إلى أرض فرحٍ كبير فور اقتحام جدران زنازيننا وتخطي أسلاكها الشائكة "النبأ العظيم".. "نجاح المقاومة الفلسطينية في إرضاخ سجانينا لشروطها وإتمام صفقة تبادل مشرّفة بالجندي الصهيوني جلعاد شاليط للإفراج عن مئات الأسرى والأسيرات من ذوي المحكوميات العالية من تلك السجون المقيتة. فبينما كنا منذ العام 2006 بين مدٍّ وجزر في سيلٍ من الأخبار التي تتحدث عن اقتراب الصفقة إلا أن الاحتلال كان دائمًا يعطلها ولا يفي بالاتفاقات، وأراد التلاعب بأعصابنا ومشاعرنا.. بعدها لم نعد نثق بأي خبر كان عن إتمام الصفقة إلا إن رأينا أنفسنا نتعانق يقينًا خارج أسوار السجن. وبين أمل ورجاء، كنا مطمئنين أن الصفقة ستتم خاصة بعد الحرب الصهيونية الأخيرة على قطاع غزة أواخر عام 2008، وفشل الاحتلال فشلاً ذريعًا في الوصول إلى جنديّه الأسير، إضافة إلى أداء حماس الرائع المتمثل في الحفاظ على الجندي وعدم الاستسلام. وفي ليلة إتمام الصفقة شاهدنا خبرًا عاجلاً على وسيلة إعلامية لم نكن نثق بها مطلقًا، مرّ الخبر عنا مرور الكرام دون أي تفاعل من الأسرى؛ فكثيرًا ما كذبت تلك القناة ومزقت قلوب الأسرى بتقاريرها الكاذبة.. قلبنا القناة على أخرى لنتأكد من الخبر، علمًا بأن القنوات المتاحة لنا هي خمس قنوات فقط، اثنتان منها إخبارية والأخريات غنائية لم نستخدمها مطلقًا، فوجدنا كذلك خبرًا عاجلاً إلا أن الشك والريب كان حليفَنا.. وفي لحظات من الصمت المطبق الذي خيّم علينا انفجرنا مكبرين مهللين ساجدين لله بدموع ساخنة ذرفت من عيوننا بغزارة دون إرادتنا.. فقد انقطع الشك باليقين فور بدء رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل بخطاب إعلان إتمام الصفقة.. حينها أيقنّا جميعًا أن النبأ أصبح حقيقة وأن لحظة الفرج باتت قاب قوسين أو أدنى. حينها لم تتسع الأرض بما رحبت لأن تحتمل فرحتنا.. شعرنا أننا انتصرنا على السجان الذي لطالما جرعنا كأس المر والعلقم.. شعرنا برغبة في كسر القيد وأبواب الحديد.. دموع العناق والفراق على أحبتنا في السجن حقيقةً كانت من أصعب الدموع على الإطلاق.. فكم كنا مثل أسرة واحدة أفرادها من أرحام مختلفة..!! وفي ساعة الصفر قبل الخروج.. كتبنا وصايانا -والدموع تسحُّ- لمن خلفنا.. وزّعنا الملابس والمقتنيات وبقينا الليلة مستيقظين حامدين شاكرين.. تدب في أجسادنا الروح وتضطرب النفوس والأعصاب؛ فلطالما انتظرنا الحقيقة وحينما جاءت ظننا أنها ضرب من الخيال..! قبل الخروج أخذونا إلى ضباط إدارة الأمن ليتأكدوا من أسمائنا وليوقع كل أسير على الملف "ملف الأمانات والملف الطبي الخاص به" بعدما فحصوا الحمضه النووي "DNA" لكل أسير، وقد تأكدوا من معلوماتنا من خلال سبعة ضباط كان يجلس كل منهم على طاولة منفردة وبنفس السؤال..! ونحن في تلك اللحظات أتوا لنا بورقة للتوقيع عليها مضمونها "نبذ العنف ضد الاحتلال"، كان أخطر بند فيها أنه "إذا تم اعتقالك يحق للمحكمة إعادة الحكم لك"، إلا أنها أُلغيت بعد إصرار الأسرى بعدم الخروج إلا بتمزيقها، ووقعنا ورقة أخرى مضمونها أننا موافقون على ما تم الاتفاق عليه في القاهرة. وفي نهاية المطاف وصلنا إلى المحطة الأخيرة، وهي "ضابط الشاباك" ليضع لمساته الأخيرة على ملف الخروج، وحينما وصلت إليه قال لي إن في اسمك خطأً، فبدلاً من كتابة اسمي فرسان كتبوا في التقارير "فرحان".. قال يبدوا أنهم أخطأوا معك..! رددت على ذلك الضابط الأرعن لاستفزازه بالقول: "أنتم اليهود دائمًا تخطئون".. من هنا احتدّ النقاش بيني وبينه ودخلنا في سجال طويل، فقال لاستفزازي: "لقد اعتقلنا أخاك بعد عرسه مباشرة وله 20 يومًا في السجن".. فرددت عليه: "عادي، لا مشكلة لديّ في ذلك"، ورفضت مجادلته مع أنني كنت في تلك اللحظة في موضع عزة وقوة إلا أن الظرف لا يحتمل، فأعصابنا كانت متعبة للغاية. قال الضابط مجددًا: "نحن نقول عنكم باليهودية أنكم أبناء حرام".. لحظتها استفزني فغضبت بشدة وقلت: "ابن الحرام الذي يسرق أرضي".. رد: "من تقصد؟".. قلت: "أي إنسان يسرق أرضي إن كان يهوديًّا أو فلسطينيًّا".. حينها استشاط غضبًا وقال: "أنت غير محترم".. فأجبته على الفور: "أنا محترم ومؤدب لكن أسئلتك غير محترمة".. فرد بالقول: "يبدو أنك لم تتعلم من السجن!!".. قلت: "بالعكس، لقد تعلمت كثيرًا من السجن، وها أنا سأعود إلى غزة". سألني مجددًا: "كم قضيت في السجن؟".. أجبت: "تسع سنوات".. قال: "إن شالله المرة الجاية أكثر".. قلت: "إن كان هناك مرة جاية".. رد: "إن لفّيت ودرت في غزة رح نضربك صاروخ".. رددت: "شهادة بتمناها كل إنسان".. فقال: "إن شالله ما بتموت، إن شالله بتنقطع رجلك وإيدك وبتضلك عايش".. في النهاية أردت أن أُنهي حديثي معه بشيء إضافي من الاستفزاز، فنحن أصبحنا متمرسين في قهر ضباطهم، فقلت له ساخرًا: "أنا أريد أن أقول لك جملة".. فقال: "تكلم يا فرسان".. فقلت: "خلفي الأسير جاسر البرغوثي، إذا تذكرون فهذا قتل سبعة عشر جنديًّا، وحلفتم يومها أنه لن يرى النور، وأنه سيعود لأهله بكيس أسود، ها هو خلفي، ماذا يفعل؟، ها هو يعود إليك لتوقع أنت بنفسك له على الخروج.. أنتم لا تفُون بما تقولون.. أنتم بلهاء وبائعون للكلام".. حينها سكت الضابط وأصابه الإعياء ولم يستطع الكلام، فما كان منه إلا التوقيع على أوراق خروج باقي الأسرى المحررين.