كنت عائدا لتوي من محاضرة لي بالجامعة، وكنت في المحاضرة أجيب على سؤال لأحد الطلاب حول السبب الذي يجعلني ساخرا في كتاباتي، وكان الطالب يحتج على طريقة تناولي لمواضيع الواقع ، متهما إياي بالهروب من مواجهة الحقيقة . قلت :يا عزيزي ،شر البلية ما يضحك ويبكى في آن واحد ،وعندما شعرت ببلادة في فهمه ،قلت :على العموم ،فليس هناك قواعد صارمة تحكم الذوق ،وتظل وجهات النظر مختلفة ،والأذواق متلونة ،واستأذنت الطلاب للرواح ، ذلك أن هناك معلومات شبه رسمية تشير إلى احتمال إغلاق الحاجز بعد ساعة من الآن ،وانطلقت لا ألوي على شيء. وما أن وصلت إلى مشارف دير البلح حتى انتابني شعور بأنني سأقضي ليلتي في وحل الحاجز ،وقد عزز هذا الشعور لدي سيارة كبيرة تحمل عددا كبيرا من البراميل الزرقاء تسابق سيارتنا متجهة إلى هناك ،وقد أكد ركاب سيارتنا أنها سيارة الترمس . قال السائق :خازوق ،انزلوا يا جماعة ،وأكملوا الطريق مشياً إلى الحاجز،وخذوا فارق الأجرة ،سأعود ،لا يمكنني البقاء هنا ،وبعد ما تبينا طول الطابور نزلنا ،واتجهنا مشيا إلى هناك .وبدأ الجميع يضغطون على ازرة الجوالات ،منهم من يحمل جوالا من نوع "بشار" ،ومنهم "أرنوب "ومنهم موتورولا ،وعندما بدأ الإرسال يضعف بدأ كل واحد يعرض مميزات جواله ،وقدرته على اختراق الأجواء المشوشة . أبو بشار يشعر بالخجل من "ابو ارنوب"،وقال أبو ارنوب :كان ينبغي لك أن تقتني ارنوبا، وأن تكون أنت "أبو ارنوب"، فالمصلحة تقتضي ذلك يا عزيزي. غضب أبو بشار ،وقال في الأجواء العادية يكون إرسالنا محترما ،لا ادري -- لماذا أغلقوا الحاجز؟ قال :لأنكم ذهبتم إلى جنيف اليوم، هذه مكافأة لكم يا أبا بشار. كان ما لا يقل عن عشرة آلاف من البشر، صغارا وكبارا ينتظرون منذ ساعات الضحى ،بعضهم لم يغادر سياراته وكثير منهم ينتظر الشاحنات للتشعلق بأذيالها، وآخرون-منهم أنا- انطلقنا نبحث لنا عن لقمة خبز نأكلها، فقد أمسى المساء ونحن على لحم بطوننا ،إلى أن هدانا الله إلى زحام حول براميل الترمس الزرقاء . اقتربت من احد الباعة لأشتري كيسا من الترمس ،وكان البائع مصروما ،اصفر الوجه ،أشعث الشعر ،مكرمش القميص ،قصير البنطلون ،يلبس حذاء من الوحل ،ولا تكف يده تمسح سطح الترمس في البرميل تارة ،وتأكل حبة تارة أخرى ،وقد طفح زبد الترمس من جانبي شدقيه المقلوبين . قلت: اليوم يومك يا عم قال :ماذا تقول ؟ قلت:أنت من أنصار اتفاقية جنيف .قال:أنا من أنصار الترمس .قلت :لا تشعر بالفرح لإغلاق الحاجز ؟قال: أنا أريد مصلحة الشعب، قلت:إذن أنت منهم قال :كيف ؟ قلت:أولاد جنيف يريدون مصلحة الشعب مثلك .ولكن الفارق بينكم بسيط جدا،أنت تسقي الشعب براميل من الماء المالح ،ليعودوا عطشى بعد كل ذلك ،وهم يسقوننا الأكاذيب ،لنعود عطشى بعد خوازيقهم. قال:هم ذهبوا إلى هناك للفسحة ،وليتزحلقوا على الجليد ،ليس مثلنا .قلت:وها أنت تتزحلق في الوحل هنا ،واول الرقص حجلان يا عزيزي قال:أنت لا شغلة لك إلا أنا ،انصرف عن وجهي .قلت لا مكان لي أقف فيه إلا عندك ،قدرنا واحد يا ... ،ثم قلت :صحيح ،بماذا ينادونك ؟قال :ساخرا:أبو نواس ،قلت :ليس بعيدا عن "أبو بشار " قلت: هل لديك جوال ؟قال :لا ،بل سيلكوم .قلت :سلام يا أبو سيلكوم.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.