انهمرت القذائف من كل مكان وتكاثف القصف وتتابعت الصواريخ، وكأنها أمطار غزيرة من سماء مظلمة مكفهرة روّت الأرض بحمرة الدماء وكستها بجثث الأشلاء، لتضرب آلامها وأوجاعها في ذاكرة كل من عاشها أو فقد إنساناً أو شيئاً من الحياة أو لم يبق أحدٌ من عائلته.
عام كاملٌ على مجزرة رفح في الأول من أغسطس الماضي لم تغب مشاهدها من ذاكرة أهل المدينة ولم يتوقعوا بشاعة أحداثها، جثث الشهداء متناثرة في الطرقات لأيام وجرحى فارقوا الحياة بلا مسعف وسواد القذائف في كل مكان كسوادها في ذاكرة المواطنين حيث أسموها "الجمعة السوداء".
في شارع البلبيسي شرق مدينة رفح وعلى مدخل الشارع المؤدي إلى حي التنور الذي أجبر الاحتلال الإسرائيلي المواطنين على عبوره بالقصف، تُبصر عيناك طوابق منزلٍ أصبحت كومةً من ركام، وآخر امتلأت جدرانه بالحطام، وبيت أسودّ من لهيب القصف، وكأنك تسير في طريق لم يسلم منها شيء من مشاهد المجزرة ومأساة المدينة.
مشاهد من المجزرة
"لا أعرف ماذا أقول لك، لم أرى مجزرة أبشع من المجزرة التي حدثت، ولم أرى إطلاق نار بهذه الكثافة والغزارة كمثل هذا اليوم ، وكانت القذائف من كل مكان" ، بهذه الكلمات عبر المواطن صبري عبد العال في حديثه لـ"فلسطين الآن" عن بداية المجزرة.
وقال: "الناس كأنه يوم نفير وكأنه يوم القيامة، زحف وتسونامي من البشر كان قادم من المنطقة الشرقية ، وللأسف كانت الناس تعتقد أن البيوت ستحميها من الصواريخ ، للأسف كان يوم فظيع جدًا".
"خلال ساعة واحدة فقط سقطت قرابة 1000 قذيفة على مدينة رفح، وكان عشرات الآلاف من المواطنين تحت نار القصف العشوائي الإسرائيلي، ليصل إلى مستشفى أبو يوسف النجار الوحيد في المدينة قرابة 60 شهيدًا، ليزداد العدد بعد ساعات إلى 170 شهيدًا ومئات الإصابات".
عائلات كثيرة من شرق رفح أصيب عدد كبير من أفرادها بين شهيد وجريح ، عائلة وائل شريف النملة خرجت من بيتها هربًا من جحيم القذائف لتلاحقهم طائرات الاستطلاع الحربية الإسرائيلية بصاروخين لتصيبهم مباشرة.
بترت قدم وائل 27 عامًا اليمنى وأصاب اليسرى تهتك شديد، وفقد نجله شريف 3 أعوام قدمه اليسرى وفقدت زوجته كلتا قدميها وأصيبت ابنته بشظايا وجروح، واستشهد شقيقه يوسف 26 عامًا وزوجته وكذلك استشهدت أخته أنغام 11 عامًا.
بزفرة ملؤها الألم عبّر النملة لـ "فلسطين الآن" عن حالته وأفراد عائلته الشاهدة على أبشع المجازر خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة:"أنا تدمرت كلياً، لا يوجد أمل في الحياة، تدمرت عائلة كاملة نحن عايشين ولكن في عداد الأموات".
ظلت جثث الشهداء في شوارع شرق رفح خاصة البلبيسي من صباح يوم الجمعة وحتى سريان تهدئة يوم الاثنين، حيث لم تتمكن سيارات الإسعاف من الوصول لهم بسبب شراسة الهجمة.
وضع صحي كارثي
مستشفى النجار الذي تعرض للقصف وتم إخلاؤه لتعيش رفح مأساة صحية لم تنتهي بعد، تسبب في مفارقة كثير من المصابين الحياة وعولج بعضهم على الأرض ولم تتسع ثلاجات الموتى لأعداد الشهداء فوضعوهم في ثلاجات المرطبات والخضار.
من جانبه يروي الدكتور عبد الله شحادة مدير المستشفى السابق ما حدث في مستشفى النجار الساعات الأولى للمجزرة في رفح ، وقال:"تفاجئنا في الساعة 10 ص باختراق الهدنة التي بدأت الساعة 8 ص بقذائف متتالية من المدفعية تنهمر على المنطقة الشرقية وفي محيط المستشفى".
وأضاف:"النازحون كانوا قد غادروا مدارسهم وعادوا إلى بيوتهم للاطمئنان عليها وتم استهدافهم وقصفهم " وتابع :"استقبلت المستشفى الأشلاء والإصابات الخطيرة والأطفال والنساء وأهاليهم الهاربين بحثا على الأمن في المستشفى".
وأوضح أن ذلك الوضع استمر لمدة 4 ساعات استقبلت فيه المستشفى 60 شهيداً وأكثر من 200 مصاباً، مفيداً أنه كان يتم إخلاء الإصابات الخطيرة إلى مستشفى ناصر بخانيونس لعدم قدرة تحريك سيارات الإسعافات للمناطق الشرقية نحو الأوروبي بسبب الوضع الأمني الخطير.
وتابع:"على مدار ساعات القصف كان هناك ابتزاز من العدو الإسرائيلي حيث يتصل على المستشفى ويسأل عما يحدث فيها، وطلبنا منهم وقف القصف والتواصل مع الصليب الأحمر لإخلاء السكان الذين ملئوا ممرات المستشفى"، مشيراً أنه تم قصف المستشفى داخل أسوارها من الاستطلاع ، "وأدى ذلك إلى حدوث أضرار جسيمة في المستشفى".
وأفاد أنه تم إخلاء المستشفى من المواطنين والمرضى وتم إخلاء الطواقم الطبية إلى مستشفى الكويتي غرب المدينة لتواصل عملها هناك ، وأوضح أنه خلال هذا اليوم تم استهداف سيارتين للإسعاف إحداها تمد تدميرها بالكامل واستشهاد 3 من طواقمها.
شهد العالم بأسره أن ما حصل في رفح في الأول من أغسطس العام الماضي جريمة حرب بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وأظهر تقرير منظمة العفو الدولية بالأدلة التي نشرتها الأسبوع الماضي أن الاحتلال ارتكب جرائم حرب برفح.












