منذ ما يقارب ثلاثة أشهر اشتعل الشارع الفلسطيني بالمواجهات المباشرة مع الاحتلال في مناطق التماس المختفلة، وجاء ذلك بعد حملة اعتداءات ممنهجة على مدينة القدس تمثلت بتكثيف اقتحامات الأقصى وزيادة في قمع الفلسطينيين عامة والمقدسيين على وجه الخصوص سواء أكان ذلك بهدم المنازل أو حملات الاعتقال الشرسة.
الأمر الذي جعل المواطن الفلسطيني يفكر بشكل بجدية لإيجاد حلول في ظل فشل الحل السياسي ومن هناك انطلقت التحركات النضالية الشعبية التي أشعلت فيما بعد انتفاضة القدس بصورتها الحالية، والتي كان أهم هدف لها هو استعادة الكرامة وكف يد الاحتلال عن المسجد الأقصى والمقدسات .
وشكلت انتفاضة القدس والتي انطلقت أساساً من زقاق القدس وبوابات الأقصى واقعاً مغايرا فبعد أيام معدودة وجدناها تطوف معظم الأراضي الفلسطينية مما أجبر الاحتلال على التراجع عن مخططاته المتعلقة في المسجد الأقصى وخاصة تلك المعنية بتقسيمه زمانياً ومكانيا كما حدت من الاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى وتمثل ذلك بداية في منع أعضاء الكنيست والوزراء الصهاينة من اقتحام الأقصى إلى التوقيع على عريضة تجدد فتوى تحريم الصعود إلى ما يسمى "جبل الهيكل" أي المسجد الأقصى .
وكانت تقارير عبرية قد لفتت إلى أن هذه الإجراءات جاءت بهدف منع الاحتكاك والمواجهات وكذلك الحد من الأسباب التي تؤدي إلى تصعيد الانتفاضة من الجانب الفلسطيني أو ما أسمته "ردود الأفعال العنيفة" .
وهذا ما رآه الخبراء والمحللون السياسيون من أن اشتعال الانتفاضة الشعبية في كافة الأراضي الفلسطينية أصابت الاحتلال بحالة رعب وإرباك كبيرة أجبرته عن التراجع عن مخططاته واتخاذه قرارات جديدة لمحاولة امتصاص الغضب الشعبي الفلسطيني ،ولكنها فشلت بذلك بحسب الخبراء.
انحسار الاقتحامات .. ظاهرة غير مسبوقة
عضو الهيئة الإسلامية العليا في القدس جميل حمامي اعتبر أن انتفاضة القدس ساهمت بشكل كبير وملحوظ في انحسار اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، معتبراً الانحسار في الاقتحامات ظاهرة غير مسبوقة.
وأكد حمامي أن انتفاضة القدس هي رد فعل قوي وحقيقي على الانتهاكات التهويدية التي حدثت وتحدث في الضفة الغربية بشكل عام والقدس بشكل خاص، ورأى بأنها أثمرت بشكل قوي رغم إمكانيات الشبان المتواضعة، لافتاً إلى أثر المقاومة الشعبية الكبير مقارنة ببيانات الاستنكار والتهديدات المختلفة والتي كانت تصدر عن الفصائل والقوى المختلفة.
ومن جهته بين مدير المسجد الأقصى عمر الكسواني أن انتفاضة القدس قللت عدد اليهود المستوطنين المتواجدين بالبلدة القديمة والمقتحمين لباحات المسجد بشكل ملحوظ، لافتاً إلى أن الاقتحامات ما زالت مستمرة بأعداد من 30- 40 متطرفاً يومياً للمسجد المبارك ولكن العدد كان يزيد عن ذلك خلال الأعياد اليهودية إلا أن الانتفاضة قللت هذا العدد .
وأوضح الكسواني أن الاحتلال لم يوقف مخططات التقسيم الزماني والمكاني للأقصى بل إنه ربما جمد المخطط أو أبطئه قليلاً ودليل ذلك هو ما حصل خلال أيام معدودة بالفترة الماضية حيث تم السماح للمتطرفين اليهود بالاقتحام.
ولفت الكسواني خلال حديثه إلى أن الانتفاضة ساهمت فتح جميع أبواب المسجد الأقصى والسماح لجميع الأعمار بالدخول إلى المسجد بينما لم تستطع الانتفاضة حتى اللحظة من فك الحصار ومنع احتجاز الهويات أو حتى شطب القائمة السوداء عن البوابات.
الإستاتيكو وإجهاض الانتفاضة
واعتبر الكاتب والمحلل السياسي راسم عبيدات أن "إسرائيل" لا تلغي أية مشاريع وإنما تبدي تراجعات في الجوانب التكتيكية، دون المساس بالهدف الإستراتيجي، فهي ترى أن إجهاض "الهبة الشعبية" المربكة لها، وحتى لا تخسر علاقاتها مع الأردن على خلفية اقتحامات المسجد الأقصى- على حد تعبيره- ، يكون باضطرارها لقول إنها لا تريد تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى بل أنها تريد المحافظة على "الإستاتيكو"، كما يجبرها أيضاً على الاعتراف بالدور الخاص للأردن في الإدارة والإشراف على المسجد الأقصى ولكن "إسرائيل" قد لا تحترم تعهداتها في المستقبل فهكذا يعرف عنها.
وفي تصريحات صحفية سابقة كان عضو المجلس الثوري لحركة فتح، والأمين العام للتجمع الوطني المسيحي في الأراضي المقدسة ديمتري دلياني قد أوضح أن هناك جانبًا من انتفاضة القدس له علاقة بالتأكيد على دور المملكة الأردنية الهاشمية على جرائم الاحتلال بالمسجد الأقصى بالرغم من أن كلمة الوضع القائم "الإستاتيكو" التي أصرت عليها التفاهمات الأردنية– الإسرائيلية تحت الرعاية الأميركية هي كلمة فضفاضة ولا تبين ما إذا كان يقصد بالوضع العام القائم منذ احتلال الأقصى عام الـ67، أم المقصود هو الوضع القائم ما بعد عام 2000، أم هو الوضع القائم الآن والذي يتضمن منع المصلين أو "تسهيلات" للمقدسيين وغيرها من الأمور.
وأضاف دلياني في تصريحاته أنه لا يظن أن مشروع التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى من ناحية إستراتيجية قد ألغي ولكن بالتأكيد أن هذه الانتفاضة كان لها أثار ايجابية فقد عكست اهتمام العالم على ما يحصل وبالتالي قد يكون هناك تأخير للمخططات كما فضح لجرائم الاحتلال .
ورغم التراجع الكبير الحاصل على أعداد المقتحمين للمسجد الأقصى توقع الخبراء والمحللين عودة الاقتحامات لسابق عصرها بل ربما تزداد وذلك كله يعتمد على حده المواجهات وسعة رقعتها على الأرض فكلما شعر الاحتلال بالإرباك كلما اتخذ خطوات تراجعية ، وتمثل ذلك في القرار الأخير الذي اتخذ بهذا الأمر وهو تحديد عدد المقتحمين للمسجد الأقصى بـ60 مستوطن فقط بدل من كون العدد مفتوح وغير محدد، وهذا دليل على نجاعة المقاومة والانتفاضة على الحفاظ على المسجد الأقصى والمقدسات.