في كل يوم يولد على أرض المدينة المحاصرة أناس تفوق هممهم الجبال، لندرك أن المستحيل لا أصل له، ويصبحوا مثالًا يحتذى به بعد أن اجتازوا الصعاب والعقبات وجعلوها سُلّمًا للنجاح، وليصلوا لأهدافهم رغم كل شيءٍ.
"فلسطين الآن" توجهت لرجل من رجال الدفاع المدني ليروي لنا قصته، منذ أن خاض غمار المهنة، وأصيبَ أثناء تلبيته نداء الواجب، وبترت ساقه أثناء إحدى المهمات، إلى أن أصبح من أشهر النجّارين والمنجّدين في قطاع غزة.
المواطن الغّزي محمد زيدان ذو الـ "34" عامًا، عمل في جهاز الدفاع المدني في الفترة ما بين عام 2004 - 2009، وبعد أن استقبلني في "منجرته" التي هي بيته أيضًا، ووجهني إلى غرفة الضيافة وجلسنا على "كنبه" الذي صاغه عقله ونفذه جسده، بدأنا نتناول أطراف الحديث.
البداية مع الدفاع المدني
استحضر زيدان ماضيه المشرق فزاد شوقه لسرده، فنادى على ابن أخيه لإحضار الضيافة، وبعد احتساء كوب القهوة بدأت حنجرته تغرّد قائلاً "انضممت لجهاز الدفاع المدني كمصدر رزق فقط دون رغبة، حيث كنت أرغب بالانضمام لأحد الأجهزة العسكرية داخل الحكومة، لكن بعد مهمتي الأولى عام 2004 لإحدى المنازل المقصوفة بصورايخ الاحتلال وإنقاذي لعدد من أفراد العائلة من تحت الأنقاض، جعلني ذلك أشعر بإنسانيتي وأني أقوم بعمل رائع يخدم المجتمع، فبدأ حبي لهذا العمل وبدأت أتعمق في أجزاء هذا العمل"
وعند بداية حرب الفرقان عام 2008 كان زيدان يشغل منصب مدير مركز الدفاع المدني "مخيم جباليا"، حيث كان يوجه ويشارك رجال الدفاع المدني في الحرائق والمهمات.
الإصابة
وعن حادثة الإصابة يقول "في احدي أيام الفرقان جاء إلينا رجل، يبكي ويطلب المساعدة للذهاب لأبراج "المقوسي" بسبب حريق اندلع في شقة على الطابع التاسع، حيث أن ابن عمه وزوجته وأولادهم وأمه المسنّة متواجدين فيه.
الثلاثيني يضيف "حاولت مساعدته عن طريق التواصل مع الدفاع المدني المتواجد في المنطقة القريبة من أبراج "المقوسي"، لكن كان صعوبة في الاتصال بسبب تشويش الاحتلال الإسرائيلي على شبكة الإرسال".
وتابع زيدان "تقييمي كرجل دفاع مدني للموقف تطلب مني الذهاب للشقة، فنسّقتُ مع قيادتي المباشرة، وذهبنا للمكان وأخمدنا النار، وفي أثناء العمل تم قصف الطابق الذي يعلو الشقة المتواجدين فيها، فأسرعنا إليها فوجدنا رجل وزوجته مستشهدين وأثناء انتشالهم من مكان الحدث، أطلقت الطائرات الإسرائيلية صاروخ أدى لإصابتي ببتر في قدمي اليمنى واثنين من زملائي ومصور من فضائية الأقصى"
وفي هذه اللحظة بدأ زيدان يقلب الصور والفيديوهات المحفوظة على جهازه الخاص أثناء إصابته، ولفت انتباهي احدي المقاطع التي يظهر فيها وهو يشير بيده للمسعفين كي يهدؤوا، ويرشدهم كيف يسعفوه، معلقاً على ذلك قائلًا "لقد أسعفت في حياتي آلاف من المصابين، وكنت أعلم ما يتوجّب عليّ فعله"
ولم يتوقف عمل زيدان بعد بتر قدمه بل واصل عمله كإداري في الدفاع المدني لـ "6" شهور، ولكنه لم يستمر في ذلك بسبب إلحاح قيادة الجهاز بإراحته من العمل.
حياة جديدة
وبدأ زيدان يفكر في خوض تجربة جديدة فقدّم له أحد أصدقائه نصيحة بالعمل معه في "التنجيد"، فوافق على ذلك واستمر معه 4 شهور.
وفي هذا الوقت حصل زيدان على منحة من الجامعة الإسلامية لدورة تصميم وتنجيد مدتها 6 شهور، حيث كان يذهب للدورة ويعمل مع صديقه ويتابع على موقع "اليوتيوب" أعمال النجارة والتنجيد.
وبعد انتهاء الدورة قرر زيدان فتح "منجرة" في بيته نظرًا لاتساع البيت، والوضع المادي السيئ له، وكوّن طاقم لمساعدته من أبناء إخوته وأبناء عمه.
وأصبح زيدان من أشهر وأمهر المنجّدين والنجّارين في القطاع، طامحًا بذلك تحصيل مبلغ لتركيب طرف "ديجيتال"، أو حتي تركيب قدم طبيعية، متخذًا عبارة " لايوجد شيء اسمه مستحيل" عنوان حياته.
"الإعاقة ليست إعاقة الجسد بل هي إعاقة العقل"، كلمات ختم زيدان حديثه بها، ليؤكد لنا أن بعض المحن والابتلاءات قد تكون جسرًا لنشكّل من خلاله قصة نجاح لم ترسم من دون وجودها.






