19.45°القدس
19.3°رام الله
18.3°الخليل
24.5°غزة
19.45° القدس
رام الله19.3°
الخليل18.3°
غزة24.5°
الثلاثاء 08 أكتوبر 2024
4.95جنيه إسترليني
5.35دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.15يورو
3.79دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.95
دينار أردني5.35
جنيه مصري0.08
يورو4.15
دولار أمريكي3.79

بطن الحوت

علي عصافرة
علي عصافرة
علي عصافرة

قُدّر لي يومًا أن أزور "مستشفى" الرملة، الخاص بأسرى المقاومة، يومها كنت أتعلل بمشكلة صحيّة لم تكن ذات أهميّة إلا أن رغبتي بزيارة المستشفى كانت عارمة، وبعد ثلاثة أشهر من المحاولات جاء القرار بنقلي للمستشفى، كان يومًا حافلًا بالمعاناة.

كانت الصورة النمطية للمستشفى ما تزال عالقة في ذهني وعقلي، أسِرّة نظيفة، أطباء بالثياب البيضاء، أجواء نقية، بلاط نظيف، وتغذية جيدة، كل تلك الأشياء التي توحي إليك بالصحة والعافية، وكل ما يدعوك للانتعاش رغم المرض.

عند بوابة المستشفى من الخارج بدت الشبابيك الزرقاء بالشبك، وألواح الحديد، فقلت لنفسي: لم نصل المستشفى بعد.

لكن "البوسطة" توقفت، وبدأت إجراءات إنزال الأسرى إلى الساحة، ودخلت أروقة وأروقة، ونفسي تحدثني: لم نصل المستشفى بعد، فمن المؤكد أنني لن أدخل المستشفى بهذه الأغلال الثقيلة. غير أني وجدت نفسي عند بوابة "قسم" عليها ضابط ومن وراء البوابة الحديدية شاب بلباس "الشاباص" السجن.

فُك قيدي وأدخلت، ثم ثلاث بوابات أُخر ثم ممر على غرف، ولكن لا مشاة فيه، وإنما عربات متحركة، عليها أنصاف أناسيّ، بعض أطراف على جسد، فهذا مبتور القدمين، وهذا يده اليمنى بترت وتشوّه في خده الأيمن وقد فقده عينه فيها، وهذا مبتور اليدين والرجلين على عربة يدفعها رجل مبتور اليد اليسرى فقط.

شعرت بثقل غريب في صدري، لماذا يمكث هؤلاء هنا؟ وماذا عليهم لو خرجوا ممن السجن؟.. تمالكت نفسي وكأن الأرض تدور من حولي، وأدخلت غرفة وكنت الوحيد فيها ممن يمشي على قدمين، ألقيت السلام، وأنا أتصفح وجوه الحاضرين، لا شيء من الحقيقة هنا؟ هذا عالم آخر، مكان آخر، على كوكب آخر.

رجل يغلق ستارة خفيفة على نفسه، وأنا أنظر، ماذا يفعل؟ كان يغير "البمبرز".. يا الله! من فعل هذا بهؤلاء؟ ولماذا؟ أي جرم ارتكبوه غير رغبتهم بالحرية؟

نادى منادي المردوان عليّ، كان الحاج ماجد الجعبة، في المطبخ وحده، يحضر طعامًا فطلب إلي مساعدته، دخلت المطبخ، افتح الثلاجة فتحتها.. كان الشريط الأبيض المحيط بباب الثلاجة قد تغيّر لونه للأسود، فآلاف الصراصير بل الملايين استوطنت الثلاجة! في مشهد مقرف لا يليق بالبشر فضلًا عن المريض المقعد.

كان في المستشفى أشرف أبو ذريّع مسالمة حضر الجميع للغداء إلاه، سألت عنه فقال: يستحيي أن يأكل معنا لأنه لا يمسك الطعام جيدًا، جميع أطرافه مشلولة، ويحتاج على مدار الساعة من يتفقده، ويقلبه عند النوم، ذهبت إلى غرفته وفي يدي الطعام، كانت ابتسامته كأنها إشعاع من الصدق، أو انبثاقة من اللؤلؤ، قلت له: سأتناول الطعام معك، المطبخ مزعج ومزدحم، ما رأيك؟ تبسّم وكأني أرى الفرح يتطاير من عينيه، أسندته وتناولت معه غداء كان مغمسًّا بالألم في لحظات يعجز فيها المرء عن تفسير هذا الحقد الذي أرغم هؤلاء على هذه الحياة، أي مجرم هذا الذي يحمل هذه الخطايا ثم يدرج في سجلّات الإنسانية، لم يمضِ وقت طويل حتى وصلنا خبر استشهاد أشرف تحت وطأة الظلم والمرض، في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض.