لم يكن لقادة الصهاينة، وحتى في أشد الكوابيس أن يتصوروا أن يظهر عجز كيانهم على هذا النحو، تحديداً في ظل تعاظم المنعة العسكرية وتحسن البيئة الاستراتيجية لهذا الكيان، وعلى وجه الخصوص أمام مجموعة من الشباب والفتية، كما يحدث حالياً في مواجهة انتفاضة القدس.
فلم يحدث أن عبر قادة الجيش والمؤسسة الأمنية الصهيونية عن عجزهم عن مواجهة تحد أمني بهذه الصراحة والوضوح كما يحدث حالياً في مواجهة هذه الانتفاضة. وإن كان قد قيل الكثير عما تمثله هذه الانتفاضة المباركة والعظيمة من نسف لمقومات أيدلوجية اليمين الصهيوني؛ لأنها دللت على فداحة الثمن الذي يدفعه الصهاينة بسبب تواصل الاحتلال، فإن تواصل الانتفاضة قد كشف عن وجود معضلة أخرى لدى اليمين الصهيوني، تتمثل في عجزه عن طرح أفكار للتعامل مع الانتفاضة، حيث بدت هذه الأفكار متهالكة، وغير عملية، وتحقق الأذى لمصالح الكيان الصهيوني، علاوة على أن تنفيذها سيفضي إلى تعاظم وتيرة الانتفاضة. فحتى وزيرة القضاء اليمينية المتطرفة إياليت شاكيد التي تنتمي لحزب «البيت اليهودي» قد أقرت في مقابلة بثتها معها قناة التلفزة الإسرائيلية الأولى الجمعة الماضي أن الأفكار التي تطرح لوقف الانتفاضة، ولا سيما الدعوات لتنفيذ عمليات طرد لعائلات منفذي عمليات المقاومة، يتعارض مع القانون الدولي، على اعتبار أنه لا يمكن تحميل أفراد هذه العائلات عبء أعمال لم ينفذوها، في الوقت ذاته فإن مثل هذا السلوك سيفضي إلى المس بمكانة الكيان الصهيوني الدولية، وقد يؤدي إلى تعاظم عمليات المقاومة بشكل غير مسبوق. لكن هذا لم يدفع قادة اليمين لرفع الأيدي، بل حاولوا تسجيل النقاط من أجل الإثبات لجمهورهم الانتخابي أنهم لم يصمتوا وقدموا أفكارا «جريئة» من أجل مواجهة الواقع. ومن الواضح أن طرح هذه الأفكار يأتي من أجل إحراج الجيش، وإبراز أصحاب هذه الأفكار على أنهم الأحرص على الأمن الشخصي للصهاينة.
فقد توصل وزير الاستخبارات يسرائيل كاتس إلى فكرة مجنونة، عندما دعا إلى طرد عائلات منفذي العمليات إلى سوريا، حيث زعم أن الطرد إلى سوريا «يتضمن محتوًى ردعيًا أكثر من الطرد إلى قطاع غزة؛ بسبب قساوة الأوضاع هناك». وفيما يدلل على أن طابع المزايدة على الجيش، لم يفت كاتس الذي يعد من قادة حزب «الليكود»، ومن مقربي رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أن يغمز بقادة الجيش، قائلاً: «في ظل عجز الأدوات التي اتخذت حتى الآن عن وضع حد لموجة عمليات المقاومة، فإنه يتوجب اتخاذ إجراءات غير عادية وصادمة؛ من أجل محاولة التأثير في الوعي الجمعي للفلسطينيين، ودفعهم لوقف هذه العمليات».
لكن محاولات قادة اليمين للتستر على الفشل من خلال طرح أفكار هاذية، باءت بالفشل؛ حيث إن كبار المعلقين الصهاينة قد جزموا بأن سياسات حكومات اليمين المتطرف هي التي المسؤولة عن الواقع الذي أفضى إلى تفجر انتفاضة القدس. فقد اعتبر رون بن يشاي، كبير المعلقين العسكريين في صحيفة «يديعوت أحرنوت» أن القيادة السياسية الصهيونية ممثلة في نتنياهو تقف وراء المأزق الأمني والسياسي الذي تواجهه «إسرائيل»؛ لأنها وفرت الظروف أمام اندلاع الانتفاضة من خلال تشبثها بمواقف سياسية متطرفة، وتعمدها إهانة السلطة ورئيسها رغم الخدمات الجمة التي تقدمها هذه السلطة لـ»إسرائيل».
ليس هذا فحسب، بل إن بن يشاي حمل نتنياهو مسؤولية تطور الانتفاضة، وتحولها إلى أنماط عمل أكثر خطورة في حال واصلت الحكومة الحالية الحفاظ على نمط تعاطيها الحالي، والتشبث بطرح المواقف المتطرفة. ولا يرى بن يشاي مسوغاً لمهاجمة الجيش وانتقاده بسبب عجزه عن مواجهة الانتفاضة، على اعتبار أن أكبر نقطة ضعف تواجه الأجهزة الأمنية تتمثل في غياب المعلومات الاستخبارية، وهذه المعلومات لا يمكن جمعها عن أشخاص يعملون بشكل فردي، ودون إطار تنظيمي. أما المعلق بن كاسبيت، فيرى أن انتفاضة القدس تمثل حرباً لا يمكن للكيان الصهيوني أن ينتصر فيها أصلاً.
وحسب كاسبيت، فإن الأجهزة الأمنية الصهيونية «تتصرف كشخص ضرير يتحرك في الظلام، هي غير قادرة على مجرد وضع تصور يمكن أن يفضي ولو من ناحية نظرية للحد من هذه العمليات أو خفض وتيرتها».
وحسب كاسبيت، فإن أخطر مشكلة تواجه نتنياهو تتمثل في رفضه التسليم بأن الحديث يدور على انتفاضة شعبية ذات طابع مدني، عشوائي، لا يمكن التحوط لها ومواجهتها بشكل محكم لعدم وجود بنى تنظيمية تحركها بالإمكان ضربها بشكل يفضي إلى وقف العمليات. ويختم كاسبيت حديثه قائلاً: «لم يولد الشخص القادر على وقف الانتفاضة».
قصارى القول.. يظهر بشكل واضح أن الانتفاضة القدس قد صنعت شرخاً بين القيادات السياسية والأمنية في «تل أبيب» على نحو بات محرجاً للطرفين.