17.77°القدس
17.51°رام الله
16.64°الخليل
22.77°غزة
17.77° القدس
رام الله17.51°
الخليل16.64°
غزة22.77°
الثلاثاء 08 أكتوبر 2024
4.95جنيه إسترليني
5.35دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.15يورو
3.79دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.95
دينار أردني5.35
جنيه مصري0.08
يورو4.15
دولار أمريكي3.79

ما زلت في المشفى

علي عصافرة
علي عصافرة
علي عصافرة

مساء يوم، داخل سجن عسقلان المركزي، بعد عدد المساء تغلّق الأبواب، ولا تفتح إلا لطارئ أو قادم جديد، أو للتفتيش القاسي، كانت ليلة حارة من صيف عام 2006 م، وعسقلان- بطبيعتها الساحلية – تمتاز بالجوّ الرطب الحار، كانت الرطوبة تشعرك بالاختناق، شيء ثقيل يضغط الأنفاس، تشعر أن سقف السجن يقع على صدرك، كان أحدنا لا يخرج من الحمام البارد حتى يعود إليه ليتبرد من جديد، وكأن الرطوبة سجن داخل السجن، أو سجّان يستعين به السجّان .

تلك الليلة سمعنا أصوات أقفال تفتح والوقت متأخر عند العاشرة ليلا ، وإذا بالضابط يفتح غرفتنا التي يمكث فيها أربعة عشر أسيراً معا تحت سقف واحد ، ثم يدفع شاباً، مترهلاً، يبدو عليه البله ، وكأنه مشلول وليس بمشلول، ولأن السجن يعلمنا فيما يعلمنا: أنّ النظرة الأولى ربّما تكون خادعة كان علينا أن نتأنى .

غير أن الشباب كأنهم نظروا بعين واحدة فاتخذوا موقفاً واحداً من غير تنسيق ، وبدأنا بالضغط على الضابط كي يرجع الأسير إلى المشفى، والضابط يرفض، وبقينا نلح حتى استدعى وحدة من الأمن ، وقد حضر ضابط الأمن معهم ، ونحن نصرّ أنّ هذا الأسير مكانه المشفى وليس هنا ، غير أن المناورة في الحوار محدودة، وخرجنا بحل مؤقت، أن يدخل الأسير لصباح الغد فقط . وتم ذلك .

شعرنا بحالة اكتئاب ونحن ننظر إلى الشاب العشريني، وهو لا يتكلم ببنت شفة، أمير الغرفة أعطاه ملابس مؤقتاً وأدخله ليستحم، وينزع عنه لباس السجن المنتن، والشاب يجر قدميه، ويسبل يديه، ويرخي فمه، وفي عينيه ترهل وذبول، ولم نكن قد قدّرنا الموقف بعد، لكنا نشعر أن الأمر جلل.

بعد دقائق من دخول الشاب فتح الباب وكان من ستارة قماش فقط، وإذا بالفتى مبلّلاً عارياً، هرع أمير الغرفة وهرعت فيمن هرع، ندخله ثم نلبسه ونخرجه، كانت الغرفة كأن على رؤوسها الطير، فيما كانت من قبل تعج بالطاقة والشباب، وكل من فيها لم يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر تقريباً.

جلسنا إلى الفتى لنطعمه فلم يمسك الطعام بفمه أو يكاد ، ثم نظر إلينا بنظرة لوددت أني أرسمها هاهنا ، نظرة كأنها غيمة سوداء تنقشع عن شفق أحمر في سماء ، ثم نطق وقال: شباب؛ أنا شاب عاقل وأستطيع الكلام.

قالها بصوت واضح ومسموع ! . فعمّت الدهشة بصوته ، وحل الفزع بكلماته .

ثم ألقى قنبلة وسط الجمع حين تابع بالقول : وأنا لاعب كراتيه وحصلت على بطولة الأندية على مستوى غزة ، اقشعر بدني ، غير أن الشباب اعتبروا ذلك جزءاً من مشكلته ، وهي مشكلة الجنون أو الهذيان ، فليس هذا بجسد بل بقايا جسد ! .

لكن واحداً من بيننا كان ذكيّا ولاعباً متميزاً لرياضة الكاراتيه ، قال له: قم.

وبدأ يسأله عن الكاراتيه ويطلب من أن يقدم حركات في " كاتا " كذا "وكاتا " كذا. والفتى يقول: لا أستطيع أن أرفع يدي كثيرا، ولا أجيد تنفيذها بشكل سليم، وصاحبنا يرد عليه، لا عليك ، أنت افعل ما تستطيع ، وبدأ الفتى يدهشنا بحركات ليست سوى انبثاقة عن رياضة، أو بقايا لعبة كانت يوماً في جسده ، حتى أجلسناه.

وصاحبنا يهم بالبكاء ولا يستطيع ويقول: صدق الفتى .

وبدأنا كأننا جزء من عذابه ونحن ننبش ذاكرته لنعرف ما وراءها، ولم يزد على القول: "كنت في الزنزانة وكانوا يعطونني إبرة كل يوم، بحجة العصبية ، حتى صرت هكذا".

جاء الصباح وقد أزمعنا على الاستنفار حتى يعود الفتى إلى المشفى فخرج، ولم تمض أيام حتى خرجت من عسقلان إلى سجن أيشل / بئر السبع.

تذكّرت كل شيء فيه ، ملامح ألمه ، جسده الغض، وصرخته في وجوهنا: "لا أريد المشفى سيقتلونني".

مضت الأعوام ولم أنس سوى اسمه، وقد جاء من الأخبار فيما جاء، أن فتى بمواصفات كذا قد استشهد .