17.77°القدس
17.51°رام الله
16.64°الخليل
22.77°غزة
17.77° القدس
رام الله17.51°
الخليل16.64°
غزة22.77°
الثلاثاء 08 أكتوبر 2024
4.95جنيه إسترليني
5.35دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.15يورو
3.79دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.95
دينار أردني5.35
جنيه مصري0.08
يورو4.15
دولار أمريكي3.79

أرواحٌ مظلومة «08/26»

أيمن دلول
أيمن دلول
أيمن دلول

كانت طائراتٌ حربيةٌ بدون طيار تحلق في سماء غزة حيث تتواجد مجموعة من الصحفيين داخل مجمع الشفاء الطبي بانتظار صلاة التراويح.. لستُ أدري ما الذي دفعني للتفتيش في هاتفي المحمول على صور أبنائي، ربما لأني اشتقت لهم فبدأت أتصفح صورهم الواحد تلو الآخر، وكلما قلبت صورة قلبت معها ذكرياتي وحدثتني نفسي: هل سأعود إلى أبنائي بعد انتهاء هذه الحرب؟ وهل سأراهم مرة أخرى؟ أم أن عظامي ستكون حطباً لهذه الحرب بفعل صواريخ الاحتلال ولن يلعب معي أبنائي مرة أخرى كما حدث مع العديد من الآباء في قطاع غزة، وبعفوية تامة وجدت دموعي تنهمر وتنساب وتبلل لحيتي، لكنني مسحتها واستجمعتُ قواي وتذكرتُ وطني الذي رأيت أنه الأحق بدموعي من أبنائي وأهل بيتي.

انتقلت حينها لصفحة أخرى، فمنذ أيام لم أجد الوقت الكافي كي أطمئن على شقيقتي الوحيدة وأبنائها وزوجها، فقد كانت الأحداث سريعة ولا تترك لنا الوقت الكافي كي نتفقد من نحبهم.. أمسكتُ سماعة الهاتف فوجدت شقيقتي بحالة صعبة بعد سقوط العديد من قذائف وصواريخ الاحتلال الإسرائيلي في محيط منزلها، حيث أدى ذلك لتحطيم نوافذ وأبواب منزلها، كما أدى إلى بث الخوف في نفوس أطفالها بعد أن أصابهم جميعا بجروح بسيطة بفعل تناثر زجاج منزلهم في مختلف أرجاء المنزل.1

وخلال اتصالي خففت عنها، وعملتُ جاهداً لتثبيتها وعدم الخوف من المجهول، وحقيقةً فلم أجد صعوبةً في ذلك، فقد باتت أحوال المواطن الفلسطيني عدم الاكتراث مما هو قادم، حتى وإن كان الاستشهاد في سبيل الله، شرط أن يمضي الواحد مرفوع الهامة، واثق الخطى نحو نهايته.

وخلال هذا الوقت، قررتُ الاطمئنان على والدتي التي لم أسمع صوتها منذ يومين، وما إن تحدثت معها حتى انهمرت بالدموع ولم تتمالك نفسها للحديث معي بعدما سمعت صوتي، ولم تدرِ أمي بأن دموعها مزقت فؤادي وشلت أركاني، فلم أكن أتمكن من النوم في أي يوم دون الجلوس معها وتبادل أطراف الحديث بصحبتها.

ضغطت على نفسي كي لا أظهرَ ضعيفاً وقلتُ لها لا تقلقي يا أمي فلن يحدث إلا ما كتبه الله لنا هو مولانا نعم المولى ونعم النصير، واعلمي بأن آجالنا وأرزاقنا بيد الله ولن يُغير من هذه الحقيقة أحدٌ لا بصواريخ أو قذائف أو غيرها.. وخلال حديثها معي طالبها أبنائي بالذهاب لتناول الإفطار معهم والرجوع إلى البيت، غير أنها انهمرت بالدموع مرة أخرى وأغلقت الجوال دون أن تدري بأن دموعي انهمرت من عيون ضعفت أمام رقة الأهل والأبناء.

هذه الفترة القصيرة من الصمت قطعها دوي انفجارات وصلتنا خلال صلاة التراويح من مناطق شرق محافظة غزة، وعلى الفور تواصلنا مع المواطنين في تلك المنطقة، ليؤكدوا بأن قصف عشوائي تتعرض له منطقة الشعف لمسجد الحرمين والعديد من المنازل المحيطة للمواطنين في عائلة البطش.

استنفرت وسائل الإعلام طواقمها بعد وقت قليل على هدوء مشوب بالحذر سيطر على أجواء قطاع غزة، أما أنا فتوجهت إلى قسم الاستقبال والطوارئ في مستشفى الشفاء بمدينة غزة بعدما أبلغني أحد ضباط الإسعاف وجود شهداء ومصابين بأعداد كبيرة، لكنه أخبرني أنهم لا يتمكنون من الدخول؛ لاستمرار تساقط صواريخ وقذائف الاحتلال الإسرائيلي في المكان.

وبصعوبة بالغة دخلت الأطقم الطبية إلى المكان، وانتشلت مصابين وشهداء، أما المشهد في مستشفى الشفاء فقد كان مرتبكاً نتيجة كثرة عدد الشهداء والمصابين، وكان مشهدا مروعاً جداً حينما كُنت على الهواء مباشرة وبدأت جثامين الشهداء تدخل المستشفى، ولعدم مقدرتي على مشاهدة الأشلاء والمصابين فقد توقفتُ عن رسالتي وقطعتها وبررت ذلك بأنني سأقوم بمتابعة الأحداث والعودة مرة أخرى، لكن الحقيقة أنني لم أتمكن من متابعة مشاهدة المصابين والشهداء لبشاعة المشاهد، وانسحبتُ بهدوء كي لا أؤثر على مشاعر المستمعين.

بعد الانتهاء من نقل الأخبار العاجلة لاستهداف منطقة الشعف شرق غزة، بدأت طائرات ومدفعية الاحتلال الإسرائيلي سلسلة من الاستهدافات وحملات التدمير للعديد من منازل وممتلكات المواطنين، لكن هذه الليلة قامت قوات الاحتلال بتركيز استهدافها للمواقع الأمنية ومواقع رجال المقاومة الفلسطينية، غير أن هذه الاستهدافات كانت بغرض محاولة فرض معادلة الرعب على المواطنين الفلسطينيين، خاصة وأن العديد من المواقع التي استهدفتها قوات الاحتلال خلال هذه الليلة تم استهدافها وتدميرها خلال الأيام الماضية، ولم يبقَ فيها ما يستحق الاستهداف.

وبعد جولة التصعيد هذه، وبينما وصلنا إلى أوقات ما قبل الفجر بقليل، توجهت لوزارة الصحة الفلسطينية وقابلت العديد من كوادرها في قطاع غزة لمعرفة احصائية أعداد الشهداء والمصابين منذ بدء العدوان وإمكانيات المستشفيات في مواجهة هذا الكارثة الإنسانية، وقد كانت المفاجأة حينما جلستُ مع أحد المدراء العامون وأصحاب القرار في الوزارة وقد بكى وهو يتحدث عن الوضع الصحي، حينما أبلغني بأن وزير الصحة في حكومة الدكتور رامي الحمد الله لم يتواصل معهم حتى الآن لمعرفة الوضع الصحي رغم استغاثتهم وحديثهم عن نفاذ العشرات من أصناف الأدوية والمستهلكات الطبية.

وخلال حديثه أخبرني ذلك المسئول الذي كان يتحدث بمرارة وألم، أن خبراء دوليين اكتشفوا استخدام الاحتلال الإسرائيلي خلال عدوانه على غزة سلاح الـ dime، وهو سلاحٌ يتسبب بإصابات غير اعتيادية للمستهدفين من المدنيين ويجعل من الصعوبة بمكان شفاؤهم خلال فترات قصيرة، هذا إن تم علاجهم بالأصل في ظل إمكانيات تكاد تكون معدومة لمستشفيات وزارة الصحة الفلسطينية التي وجدت نفسها وحيدة بدون توجيهات أو تواجد وزير الصحة أو وزراء الحكومة لمتابعة متطلبات تلك المستشفيات في حربٍ هي الأصعب على مليون وأكثر من نصف مليون مواطن فلسطيني.

انتقلتُ إلى زاوية أخرى في المستشفى بعدما انخفضت وتيرة علاج المصابين من عائلة البطش في استهداف شرق الشعف، وقررت التوجه للمصابين لمعرفة تفاصيل ما جرى، وخلال تجهيزي لإجراء مقابلات صحفية مع المصابين بدأنا نسمع صوت اشتباكات عنيفة في الأطراف الشمالية الغربية من مدينة غزة، اتضح فيما بعد أنها تجري بين رجال المقاومة الفلسطينية وجنود بحرية الاحتلال الإسرائيلي الذين حاولوا التسلل إلى شواطئ قطاع غزة.

وداخل مستشفى الشفاء وصل رجل في الخمسين من عمره وأخذني بالأحضان في خطوةٍ للإشادة لما أقوم به، ودار حوار بيني وبينه أكد من خلاله على دعمه للمقاومة وإنجازاتها وسؤاله المتكرر عما يجري في منطقة السودانية، كما أخذ يتحدث عن مناقب الشهداء الذين ارتقوا في القصف على منازل عائلة البطش دون دمعة تنزل من عينه، استغربتُ منه وتعرفتُ عليه، فأخبرني أنه أحد الناجين من الاستهداف وقد استشهد فيه شقيقته واثنتان من بناتها وزوجة ابنها، حينها وقفتُ بكل شموخ من صمود هذا الشعب الذي يودع الشهيد تلو الآخر، ويُصر على احتضان المقاومة ورجالها.

تمنيتُ الاستمرار في حواري مع ذلك الرجل، فكلماته كانت دافعاً لي لمنح الجمهور والمستمعين شُحنات من الثبات والصمود والثقة بنصر الله، لكن قطع حديثنا وصول سيارات الاسعاف إلى حيث نتواجد في المستشفى، وقد نُقلت مجموعة من المواطنين من عائلة الحلو في حي الشجاعية ما بين شهيد وجريح، استلقى رجلٌ أمام الصحفيين وكان بحالة غضب شديدة، وأخذ يصرخ في رجال المقاومة والقائد العام لكتائب القسام محمد الضيف: “أدعوهم لاستمرار قصف الإسرائيليين. دمروا بيوتهم، أحرقوا مصانعهم، لا تتوقفوا عن حربهم وكل أموالي وبيتي وأبنائي فداءٌ لكم”.

هدأ ذلك الرجل قليلاً فأخذته على جانب لمعرفة تفاصيل ما جرى معهم، فأبلغني بأن قوات الاحتلال الإسرائيلي اتصلت على هاتفه لتبلغه بضرورة إخلاء منزله المكون من أربعة طوابق خلال دقيقة ونصف فقط، فقال: “قمتُ بإخلاء زوجتي وأبنائي، لكني لم أتمكن من إخلاء والدتي المريضة والمقعدة، وها هي قد تقطعت.. رجعت لإخلائها وقبل الوصول للمنزل قصفوه…”.

مضت تلك الساعات ونحنُ نحاول مسح دموع المكلومين من المواطنين، والتخفيف من معاناتهم، لكننا لم نعلم بأنهم أقوى منا كثيراً ويمتلكون صموداً وثباتاً وعزيمة كان هو السبب الأبرز لإصرار الاحتلال الإسرائيلي على استهدافهم من خلاله، فمشاهدته لصمودهم وعنفوانهم أمرٌ ضرب قوته في مقتل، خاصة وأنه أشعل الحرب النفسية قبل تصعيد العدوان العسكري لعله يكسرهم قبل انطلاق المعركة، لكنه فشل في ذلك.

ومع صباح ذلك اليوم انطلقت جنازة مهيبة من مستشفى الشفاء بغزة لتشييع شهداء عائلة البطش الثمانية عشر، توجهت لسؤال بعض المشاركين في الجنازة، لكنهم أجبروني على التوقف عن طرح المزيد من الأسئلة، فإجاباتهم انحصرت في تحديهم لغطرسة الاحتلال وتأكيدهم على دعم المقاومة والوقوف من خلفها مهما كلفهم ذلك من ثمن.