17.77°القدس
17.51°رام الله
16.64°الخليل
22.77°غزة
17.77° القدس
رام الله17.51°
الخليل16.64°
غزة22.77°
الثلاثاء 08 أكتوبر 2024
4.95جنيه إسترليني
5.35دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.15يورو
3.79دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.95
دينار أردني5.35
جنيه مصري0.08
يورو4.15
دولار أمريكي3.79

ذبح من غير دم

علي عصافرة
علي عصافرة
علي عصافرة

العلاقة بين الإنسان ولباسه هي علاقة الروح بالجسد، إذ إن من تكريم الإنسان أن كساه الله وألبسه فرفعه عن البهيمية وميّزه، ولا ضير أن نزع اللباس عنه هو نوع من أنواع الإذلال الذي يراد منه أن يخلع الإنسان إنسانيته وهي في ظاهرها نزع للباس وفي باطنها نزع للتكريم وخلع للتمييز وإركاس وانتكاس.

وفي السجن قد بلغ الذلّ مبلغاً فتمادى حتى حكم، وتطاول حتى احتكم، ولا شيء في السجن من الإذلال إلا الكلمة، فهي كلمة مجردة من معناها ما دام الإذلال يراد به الروح، أو حبس للطعام والشراب فإن المرء ها هنا يستعلي ويتمرد، وينتشي بصبره ويتفوق بعزيمته، فليس الجائع بذليل، وليس المريض بمنتكس، ولا المعزول بمنهزم.

وقد أيقن اليهودي بفطرته السادية أن ذلك كله لا يشبع غريزيته وجشعه في الإذلال وحب التسلط والتفوق، فابتكر للأسرى المقاومين طريقة جديدة يدخل من خلالها مداخل لا تكون إلا من شيطان أو يهودي، فكان التفتيش العاري انبثاقة طبيعية لهذه النزعة الشيطانية.

وقد ابتدأ الأمر كما هي العادة بالحجج الأمنية ولدواعٍ واهية تسقط عند التمحيص، ثم درج الأمر من بعد مقاومة واهية تداعت أمام السطوة والجبروت حتى امتدت واستفحلت فكان التفتيش العاري لأي سبب كان ولأي رغبة وجدت، فليس ثمة قوة بيد الأسير غير الرفض الصوتي، والنداء الإنساني في وجه الرغبة الحيوانية.

وقد أريد للتفتيش العاري أن يتطبع به هذا الأسير المقاوم كي يتجرد من فكره كإنسان وثقافته كمقاوم فيستحيل كائناً من الكائنات أقل درجة من هذا الذي يعريه من ثيابه ولا ريب أن في هذا تسلط على النفس، فقد استحال الأمر كأنها سياط تلدغ الأجساد الهشة، وتدمي الأرواح المحلقة.

وقد تتزاحم المشاهد الدامية التي شهدتها وشاهدتها وشهدت عليها، ومنها أنني وعدد من الإخوة نقلنا إلى سجن جديد، سجن " أيلون" وهو بالمناسبة سجن قبيح المنظر، سيئ السمعة والصيت، أدنى من مستوى الأرض، تدلف إليه مياه الشتاء من كل جانب، والعفن يكسو كل شيء فيه حتى الخبز، وإذا أطفأت أضواء الغرفة نهارًا صرت كأنك في قبر أو شيء يشبه القبر، على كل حال فعددنا ليس بقليل, يتجاوز المائة، وقد فرض علينا أنه لن يدخل "القسم" أحد حتى يتعرّى كيوم ولد، فقاومنا بالصوت وتدافعنا مع السجّان وغير المقيّد ضعيف والأسير في حكم العبد إن جاز، دخلنا الغرفة وكل واحد فينا لا يطيق النظر في وجه أخيه، وفي عين كل واحد منا حكاية للكرامة تروى، وفي هذا الصمت العزيز سمعنا صوت صراخ نظرنا إليه من فوهة صغيرة مطلة على ساحة السجن، كان شاباً من شبابنا قد جرّ مكبلاً إلى هناك، وقد تحلق حوله عدد من الأسرى تجاوز عددهم العشرين ما بين ذكور وإناث، وأحدهم يصرخ في وجهه: اقلع ملابسك؛ والشاب يرفض ويتمرد، فانهالوا عليه ضربا وركلاً، ثم مزقوا عنه ملابسه قطعة قطعة حتى تعرى تماماً وهو مقيد، تحلق السجّانون حوله يتضاحكون ويسخرون، ثم أخذ أحدهم بلباس الرجل يرمي به قطعة أقصى الشمال وأخرى أقصى اليمين، والسجّان يصرخ فيه: "قوم، خذ ملابسك"، وهم يصفقون جميعاً بكل سخرية.

اتخذ أسرى المقاومة قراراً حاسماً بإيقاف هذا التفتيش الذي طال وقتا ولو بالدم، غير أن السجن داء ووباء لا دواء له إلا الحرية فلا شيء يعدل أن تكون حرّا لا شيء على الإطلاق.