تجمعني جلسات سمر بصديقات فاضلات فيأخذنا حديث الذكريات الى المحطات الأولى في الالتزام والحجاب، محطات تصح ان تكون الولادة الحقيقية لهذه الانثى التي قررت أنها في يوم محدد في ساعة محددة في حدث محدد ستعتنق الاسلام مرة أخرى، وتجدد الشهادة التي ولدت بها فطرة ووراثة عن أهلها، لتصبح مسلمة مرة أخرى، ولكن بكامل وعيها وإرادتها الشخصية.
ربما تبدو قصصا بسيطة وعابرة، ولكني أراها تستحق التوثيق والتذكير بها، وتأريخها ليعرف هذا الجيل من الشابات ان امهاتهن، ومن سبقهن جاهدن أهل هذا الزمان من المسلمين أمثالهم ومن أهاليهم ليسمحوا لهن بارتداء الحجاب مع انه فريضة دينية لا خلاف عليها، هذا الحجاب الذي تناقش الفتاة فيه وتحاول التحايل عليه او الالتفاف على رسالته عانت من أجله أنثى مثلها في زمن ليس ببعيد من التضييق والمقاطعة والحرمان والعقاب، كأنها اقترفت اثما او خرقت محرما بلباسها للحجاب في الوقت الذي ربما كان أمها وجدتها يرتدين التنانير القصيرة، كما أن بعض فتيات اليوم يرتدينه بلا مبالاة كمجرد غطاء للرأس لا يتناسب مع باقي الملابس ظاهرا وطهارة الاخلاق والقلب باطنا، فلا بد من تذكيرهن ان الحجاب مظهر وجوهر واعتقاد ومعاملة.
هذه القصص ضرورية لتذكر ايضا من اعتدن على الحجاب بالحلاوة الأولى، بالصعوبات التي استفزت الايمان والتصميم وانتصرت بالنهاية وحصلت غايتها؟ أين ذهبت هذه النفس المتوقدة من دعوة الله، ودعوة الشابات ام ان الحجاب شاب ايضا مع الشعر الابيض؟ وهل يشيب شيء من دين الله فيفقد ألقه ووهجه؟ أين ذهب بريق الحمد، وبريق الشعور بالتميز في أعين من جاوزن الاربعين في الحجاب؟ أما زلن ينظرن في المرآة بأنفاس الحمد الأولى، ونضرة الجمال الأولى، ورمقة الاصرار على التميز والنجاح بالحجاب؟!
لقد عزمت أن أروي في زاويتي هذه مذكرات الحجاب، وقصص المحجبات كلما صادفتها وادعو الاخريات الى رواية وكتابة قصصهن، فهذا من بعض جهاد النساء في هذا العصر، وحري أن لا تذهب التضحيات أدراج النسيان.
القصة الاولى: بالذهب اشتريت حجابي
يوم أخذت قرار الحجاب لم يكن في بيتها شيء يصلح لكي يلبس كحجاب سوى» ايشارب» ملون صغير تضعه جدتها بالكاد يغطي شعرها! وبالطبع كان طلب النقود من اهلها لشراء الحجاب كفيل بأن يشعل الحرب العالمية الثالثة، ويرمي بها في أتون جهنم! فما الحل إذن؟
خاتمها وليس سواه وهو لها وليس لأحد سلطة عليه او ملكية له وهي حرة بالتصرف فيه، ولا من شاف ولا من درى.
ومن بعد المدرسة خرجت مع صاحبتها ابنة الصف العاشر التي بالكاد تعرف محل الخضرة و الدكان والمخبز وتقضي طلبات أمها على عجل، واحيانا ينوب اخوتها عنها، خرجت الى سوق الذهب لا لتشتري شبكة ولا زينة فعرسها التي كانت تحضر له كان من نوع آخر بدأت أهازيجه وزغاريده ترج قلبها رجا من يوم أخذت القرار بالحجاب، لم تفاصل ولم تكن تعرف أسعار الذهب اصلا ولم تعرف هل خدعها البائع ام أعطاها حقها، كل ما عرفته أن بين يديها أحد عشر دينارا هي كل ثروتها لإنفاذ حلمها بشراء الحجاب.
لم تجرب بطلتنا الفقر غير أن فرحتها بالمبلغ كانت كسعادة فقير يلمس النقود لأول مرة فهي طريقه لشراء ما لذ وطاب مما كان ينظر اليه ويتحسر، نظر صاحبتنا كان معلقا بحجاب وجلباب فقط، وكانت لو طلبت من اهلها اجمل الفساتين للبوا غير هذا!!!
راح الخاتم!! لا لم تشعر بشيء من هذا، ولا بذرة ندم ولا تراجع، كانت صفقة عظيمة، ولو عاد الزمان بها لباعت الخاتم مرات ومرات بنفس الاقبال والعزيمة.
لا مجال للانتظار فأي تأجيل قد يكشف الخطة للأهل، ويضيع التدبير، ويضيع الحلم معه! اذن الى السوق من فورنا لنشتري الحجاب، وذهبت مع صديقتها ولكن المال لم يكف!! لم يشتر سوى الجلباب الكحلي، ولكن ماذا عن الحجاب؟ ماذا افعل وليس في بيتنا شيء يصلح ليلبس على الرأس، والعين بصيرة واليد قصيرة، والخاتم لم يكف؟ أيضيع الحلم؟ أيؤجل بعد ان بلغت اللقمة الفم، وأصبحت قاب قوسين من الاحتفال بعرسي؟
رأت صديقتها غير المحجبة ايضا يأسها وخيبتها فقالت لها: لدينا في البيت حجاب أبيض ألبسه لحصة القرآن، أعطيني الحجاب القصير الملون من بيتكم لألبسه لحصة القرآن واعطيك حجابي.
عادت الزغاريد لتلعلع في قلبها، ولكن هي لم تفعل بعد شيئا؟ لم تعلن الاعلان العظيم عن هذا الارتباط بهذا المحبوب الجديد لأهلها!!
أمي حنونة ووالدي يحبني ويثق بي ويدللني هكذا خاطبت نفسها، وهي تتسلل الى غرفة والدها لتوقظه من النوم ليفتح عيونه بتثاقل ليسألها عما تريده فيفاجأ بالصاعقة، ويسألها ما هذا؟ فتقول: تحجبت وانا خارجة للمدرسة فيكاد ان يقول لها «روحة بلا رجعة»، إلا ان النعاس ينقذها من هذه المواجهة، فيضمر الأب ان يتفرغ لها بعد العودة من المدرسة اياما بين أخذ وجذب ومحاولة ردع واقناع باللطافة والطفاشة دون جدوى حتى أخذ الأب الحجاب والجلباب وقال لها سأذهب بها الى المنجرة واحرقها هناك!!
سدت في وجهها كل الأبواب والنوافذ، فكيف تخرج من البيت بلا حجاب؟ أتعود على أعقابها بعد إذ هداها الله؟ أتفصم عرى المحبة بعد ان ذاقت لذتها؟
حسنا لن اذهب الى المدرسة، ولن اخرج من البيت ولو جررتموني من شعري! والأب يزداد عنادا وهي تزداد صمودا، ولما طال الغياب عن المدرسة جاءت المديرة والمشرفة لتتكلم مع الطرفين، ومع تصميم بطلة القصة ان لا دراسة ولا مستقبل ولا خروج بغير الحجاب رضخ الأب لحق كان يعلمه، ويحس به، ولكن يقاومه، وعاد الى المنجرة، وأخرج البقجة التي لم يحرقها فعاد الى بطلتنا استثمارها، وعادت شبكتها، وعاد الحبيب.
لم ينسَ الأب، ولم يرض سنوات بعدها، وظل ينقدها مع كل فرصة، وهي ثابتة صابرة تخلط بصبرها كثيرا من الإحسان والمودة والبر لأهلها حتى تعرفهم بأخلاق الحجاب، وما يفعله في نفس وحياة المحجبة فما كان من الطود العظيم الا أن خر لعظمة الدين، ورقة البر، وبحنان الأب أعلن وقد تقدم به السن: كانت أبر أولادي!!
استبدلت بذهب الدنيا ذهبًا لا يخضع لأسعار السوق، ارتفاعا وانخفاضا، والمتاجرة فيه مضمونة الربح والزيادة فقط.
ذهب الخاتم، وثبت الأجر ان شاء الله لقصة حجاب عمرها ٢٥ عاما.
ومع قصة أخرى قادمة بإذن الله نؤرخ سويا لمذكرات حجاب.