إذا كان قرار رئيس السلطة محمود عباس بإقالة محافظ نابلس اللواء أكرم الرجوب مفاجئا لعامة الناس، فهو لم يكن كذلك للمطلعين على خبايا الأمور.. إذ أن هناك الكثير من المؤشرات على صراع حميم كان يدور في الكواليس بين جهات عديدة، ومن بينها الرجوب ذاته، لكنها في المحصلة تغلبت عليه، ولم يستطع مؤيدوه أو داعموه الصمود في وجه سيل الفساد والفوضى الجارف.
هذا لا يعني مطلقا أن الرجل لم يظلم أحدا، لكن يشهد له -حسب المتابعين- أنه حاول وضع حدٍ لبعض الممارسات وإنهاء بعض الظواهر التي أفشلت السابقين من زملاءه، لكنه -على ما يبدو- مس بمصالح الجهات المتنفذة، فحل به ما حل بغيره، رغم أنه كان قد تلقى دعما من عباس في أول مواجهة له مع الخارجين على القانون، لكن كيف انقلب هذا الدعم والتأييد إلى معارضة، وصلت حد إقالته من عباس نفسه!!.
المواجهة الأولى
بعد أشهر من تسلمه منصبه خلفا للواء جبرين البكري، حدثت المواجهة الأولى مع مسلحي المخيمات، وتحديدا مخيم بلاطة إلى الشرق من نابلس أوائل عام 2015، وكانت هناك قائمة مطلوبين رفض الرجوب كل وسائل الصلح قبل أن يسلموا أنفسهم. لكن المواجهة الفعلية لم تكن مع 22 مسلحا و"أزعرا" فقط، بل في الحقيقة مع من يدعمونهم.
لم يطل الأمر كثيرا حتى بات الصراع على المكشوف مع النائب الفتحاوي جمال الطيراوي ابن المخيم،حينها كان المحافظ مدعوما من أعلى المستويات، وهذا ما أعطاه دافعية إضافية لاستكمال خطواته، فحاصرت واقتحمت القوات الأمنية المخيم ودارت مواجهات عنيفة مع المسلحين أسفرت عن جرحى بين الطرفين..
وفي وقت ظن الرجوب أنه منتصر لا محالة، وأن الطيراوي "الصغير" خسر، دخل رئيس الحكومة رامي الحمد الله على الخط بشكل مفاجئ، وزار المخيم والتقى بالمطلوبين واتفق معهم على تسليم أنفسهم شكليا، وسيفرج عنهم لاحقا وينتهي ملفهم، وهو ما كان.
جن جنون الرجوب، إذ كيف يلتقي رئيس الحكومة بمطلوبين للعدالة! بأشخاص أطلقوا النار على رجال الأمن!! فلم يجد سوى صفحته على "الفيسبوك" لينفس عن غضبه الجام.
وكتب وقتها تعليقا اتهم فيه صراحة المستويات السياسية العليا والرئاسة بدعم الخارجين عن القانون.. وكانت هذه بداية الشقاق بينه وبين عباس.
تحدٍ صريح
انكسرت شوكة الرجل، رغم التضامن الشعبي غير المسبوق الذي تلقاه على مستوى محافظة نابلس ومؤسساتها وإعلامها.. هذا شجع جهات أخرى على العودة لحمل السلاح بل ورفعه علانية في وجه السلطة. وهو ما جرى في البلدة القديمة في نابلس.
فقد تطور خلاف بين عائلتي "حلاوة وحمامة" من نابلس في يناير الماضي إلى مقتل شاب من مخيم العين محسوبا على العائلة الثانية، ورفضت العائلة الأولى تسليم الفاعلين للسلطة وتحصنوا في منطقتهم السكنية "درج العقبة"، ولاحقا اقتحمت عناصر مسلحة من السلطة المكان وحدثت اشتباكات، ولم تستطع السلطة حسم الأمر.. ليخسر معها المحافظ من جديد نقاطا من حسابه، ويكسب أعداء جدد من المتنفذين، الذين لا مصلحة لهم مطلقا بسيادة القانون ومنع المظاهر الفاسدة، كونهم مستفيدين منها بشكل كبيرا.
الحشيس .. والمخدرات
خلال تلك الفترة، قاد المحافظ مع جهاز الشرطة حربا على تجار المخدرات، وتم اكتشاف أكثر من معمل ومن مزرعة تستخدم لانتاج أنواع خطيرة من الحشيش والمخدرات، واعتقل من كان بها من عمال... لكن كالعادة كان ورائهم أسماء كبيرة، منها قيادات أمنية متنفذة و"قوة فساد"، أقوى من المحافظ ذاته..
مؤتمر النقابات
لكن ما حدث مؤخرا في مؤتمر اتحاد نقابات عمال فلسطين يبدو أنه "القشة التي قصمت ظهر البعير"، إذ تفجر خلاف خاد مع الطيراوي "الكبير" .. وهو عضو اللجنة المركزية لحركة فتح توفيق الطيراوي.. الذي ضغط على الرئيس لإلغاء المؤتمر العام للاتحاد الذي يضم ممثلين عن كافة فصائل منظمة التحرير، تحت حجج كثيرة، كلها تقريبا –حسب المراقبين- غير صحيحة، وما السبب الحقيقي إلا أنه يريد بصفته مفوض المنظمات الشعبية في فتح إلا أن يسيطر على الاتحاد ويُنسب من يراه مناسبا لقيادته ويقصي الآخرين.. وهو ما تنبه له المحافظ الذي استقبل بنفسه وفودا أجنبية من الاتحاد العالمي للعمال والاتحاد الأوروبي جاءوا ليشاركوا في المؤتمر، فلم يكن بإمكانه تنفيذ قرار الرئيس بمنعه، لما سيلحق بالسلطة من أضرار بالغة، خاصة وهي تسعى لنيل تأييد ودعم كافة المنظمات العالمية..
كما أن كل تهم الفساد المالي التي حاول الطيراوي الكبير إلحاقها بالاتحاد ورئيسه شاهر سعد المدعوم من عضو مركزية فتح محمود العالول، لم يثبت دقتها..
لكن مصادر قالت إن الرئيس نفسه لا يريد بقاء شاهر سعد، كونه من المعارضين لتطبيق قانون "الضمان الاجتماعي"، الذي وقع عليه عباس، ولم تكن هناك وسيلة لإقصاءه إلا بمنع انعقا المؤتمر، ينها يصبح الرجل "غير شرعي"، وقد يتم التعامل معه كما جرى مع بسام زكارنة نقيب الموظفين الحكوميين السابق.. لكن سعد تنبه للموضوع، ونال على دعم فصائل منظمة التحرير بما فيها كتلة الشبيبة العمالية التابعة لفتح وأعيد انتخابه أمينا عاما للاتحاد.
عوامل جعلت الرجوب يدعم عقد المؤتمر، وبالتالي صار الخلاف شخصيا بينه وبين الطيراوي، الذي أقنع الرئيس عباس أن المحافظ رفض تنفيذ أوامره..
حرب "الفيسبوك"
أدرك الرجوب أنه في معركة وجود، فلجأ مجددا للفيسبوك، وكتب تعليقه الشهير، ضد بعض أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح، ويقصد الطيراوي فيه، إذ يقول :"بدون مقدمات.. الله يرحم ايام لما كان عضو لجنة مركزية يحكي موقف كانت عروش بتهتز، وكراسي بتهبط، وروس بتحسس عليها.. بتعرفوا ليش لانه كانوا مصالحهم مش موجودة ومصالح فلسطين والشعب الفلسطيني فوق كل المصالح، الكرامة الشخصية كنت بتشوفها في عيونهم وعلى جباههم لانهم متوحدين مع همّ شعبهم ومصالح شعبهم، كنا بنعشقهم بنحبهم وبنعتز فيهم، كانوا قدوه حسنة".
وأضاف "اليوم شو نقول ولا شو نحكي!! احنا بنحقق انجازات سياسية وبنحرج عدونا كثير، وللأسف بيطلعلنا واحد بيسمم بدنا وبعكر صفو احلامنا بمواقف هدفها فقط تسميم العلاقات الداخلية واعطاء انطباع لاهلنا وناسنا سيئ عنا.. آه يا وجعك يا فلسطين. آه يا الم امهات اسرانا وجرحانا.. مليون آه على قهر أم شهيد تريد أن ترى أداء محترم وسلوك حسن.. الله يرحم ارواحكم يا كل الشهداء الله يرحم روحك يا ياسر عرفات".
بيدي لا بيد عمرو
لم ينتظر الرجوب أن يخرج بيان رسمي يتحدث عن إقالته، بل هو من بادر لنشر المعلومة، فكتب: "تعليمات السيد الرئيس سيفُ على عنقي…. فالتزاماً مني بذلك اغادر نابلس التي خدمتها بكل أمانة ونفذت تعليمات قيادتي بكل شرف ولم أخل باي موقف سياسي او وطني، لا بل كنت حريصا وامينا ان لا اكون الا عوناً لهم وليس عليهم وأثقل على نفسي ولا أثقل عليهم".
وأضاف، "كنت مع المواطن ولم أكن عليه، لم اسرق ولم أتسلط على رقاب المواطنين ولم أستغل منصبي، سابقى وفياً لمبادئي وقيادتي التي تشكل لي قدوة حسنه ومن لم يشكل لي قدوه حسنه لم ولن التزم به ولا اراه".
وأكد الرجوب أن مواقفه ومبادءه ليست للمساومة، وأنه لن يتراجع عن أي موقف وطني أو سياسي أو حركي اتخذه.
حادثة السامريين
وربط البعض إقالته، بموقفه بعد أن انسحب وعدد من المسؤولين من احتفال الطائفة السامرية بعيد الفصح الخميس قبل الماضي، احتجاجا على منح ممثلين عن مجلس المستوطنات المقامة بالضفة كلمة خلال الاحتفال.
وأكد الرجوب في حديث سابق أن الانسحاب تم بسبب وجود مستوطنين في الاحتفال، مضيفا "نقدر الطائفة السامرية ولذلك نحن نشاركهم افراحهم واتراحهم بل ونعتبرهم جزءا من الشعب الفلسطيني، ولكن ما لا نقبله هو وجود المستوطنين في الاحتفال بل واعطائهم كلمة خلاله، الأمر الذي اضطررنا إلى مقاطعة الاحتفال الرسمي والخروج منه".
لم تنته الحرب بل، إذ بادر الرجوب هذه المرة للهجوم والتهديد، وهو ما يمكن فهمه من التعليق الأخير له على صفحته ع الفيسبوك، الذي جاء فيه (من يعتقد أن كرامة بنتي وابني ساتركها بيد من يعتقد نفسه قائدا فتحاويا كبيييييرا ويتبجح ويقول إنه أطاح براسي، "المقصود توفيق الطيراوي".. والسؤال لمصلحة من؟؟؟ وخدمة لمن يا هذا؟؟… ويتغول بسيف الشرعية على كرامتنا.. سأقبض على الجمر ولكن للصبر حدود).
لا عودة
ومع ساعات الأولى لليوم الاول من شهر أيار، حسم الرجوب أمره، ونفى كل الشائعات التي خرجت تبشر بعودته لنابلس، وخاصة ما صدر عن أمين سر حركة فتح في نابلس جهاد رمضان بأنه سيعود قريبًا لممارسة مهامه مجددًا.
ونشر الرجوب على صفحته الشخصية في الفسبوك: "بدون مقدمات… شكرا لكل من قال كلمة حق، شكرا لكل من قال الحقيقه ووضحها، أحني هامتي للأوفياء المخلصين، لا زلت ولن أحيد قيد أنمله عن التزامي بقرار السيد الرئيس رأس شرعيتنا يا إخوااااااان… شرعيتنا المفترى والمتآمر عليها… والذي أطلبه من كل الفتحاويين والفصائل وكل الفلسطينيين الاصدقاء الاعزاء أن لا ينقلوا أي خبر غير رسمي، قرار الرئيس ساري المفعول وأنا ملتزم به، نقطه وسطر جديد".
إذا هي حرب بين الظالم ومن هو أظلم منه، وتصفية حسابات بين المتنفذين والفاسدين، الذين على ما يبدو أنهم مستعدون لخلع من كان يوما محسوبا عليهم إذا ما فكر مجرد تفكير أن يخالف نهجهم.