في بلدة نسيتها حضارة المدن، وابتعدت عن تطور القرى القريبة، وعلى رأس تلة سجنت بين "مستوطنة إسرائيلية" وشارع التفافي يلتهمان مساحات واسعة من أراضيها، وفي ظل أشجار الزيتون واللوز تقف "كرمة" شامخة جنوب دورا قضاء الخليل تواجه وحدها الإغلاقات والإهمال.
في مدخل البيت، كانت أكوام اللوز على الأرض، جزء منها بات جاهزا للتجفيف، وكومة ما زالت تنتظر دورها في عمليات التقشير، فيما جمعت القشور في كومة كبيرة تمهيدا لنقلها للتخزين، فهي وجبة مميزة للأغنام.
في غرفة واسعة أول المنزل، جلست الحاجة أم محمد عواودة، سنديانة فلسطينية رسمت الأيام على ملامحها آثارا واضحة، لكنها بدت بنفس الفتوة والشباب، مقابلها كانت تجلس شقيقتها أم جمال المقدسية، تأهبت الثمانينيتان للحديث، فمنذ زمن لم يسمع صوت البلدة خارج حدودها.
أم جمال عمرو، قدمت زائرة لبيت شقيقتها تعايدها، وصفت كيف وصلت البلدة في ظل الإغلاق قائلة:" وقفت السيارة على مدخل البلدة المغلق بالسواتر الترابية والمكعبات الإسمنتية، وقف ستة رجال يحفرون الأرض بأظافرهم لفتح الطريق، حتى تمر السيارة التي استقلها".
يسرى عواودة ابنة الحاجة أم محمد صبية ثلاثينية، عكفت تصف حال البلدة من فقدان 1الخدمات صحية، فلا مركز صحي سوى عيادة أمومة وطفولة، ولا تمديدات لخط مياه، فالجميع يعتمد على مياه الآبار التي تنفد في شهر آيار من كل عام على أبعد تقدير، وبعدها يبدأ الجميع بشراء المياه، مما يعرضهم لابتزاز سائقي شاحنات خزانات المياه طوال الصيف، حسب قول يسرى.
أم محمد تروي لـ"فلسطين الآن" كيف افتقدت البلدة لكل أشكال الدعم الزراعي منذ قدوم السلطة الفلسطينية؟!، فلا أسمدة ولا مبيدات، ولا حتى أي نصائح تقدمها وزارة الزراعة للبلدة التي تعتمد بالكامل على الإنتاج الزراعي المحصور في الزيتون واللوز نظرا لسهولة تخزينه وحمايته من سياسات سوء التسويق.
تضيف أم محمد: " كنا قديما نهتم بأشجار البرقوق والأجاص والخيار والبندورة، لكن الآن الأمر صعب جدا، فهذه محاصيل لا تحتمل أي تأخير في تسويقها وإلا تعرضت للتلف السريع، فلجأنا للاهتمام بالزيتون واللوز للمحافظة على تعبنا في رعايتها.
وتضيف أم محمد:" معاناتنا تضاعفت منذ خنقت البلدة " بمستوطنة عتنائيل" في ثمانينات القرن الماضي، ثم تبعه الشارع الالتفافي، فأي عملية للمقاومة في المنطقة يتم إغلاق مداخل البلدات على الشارع الالتفافي "60" بالكامل، وحتى تلك الطرق الترابية الوعرة التي يلجأ إليها السكان وقت الإغلاقات يلاحقها الاحتلال بالسواتر".
عادت يسرى للحديث حول إغلاقات البلدة الأخيرة التي نفذها جيش الاحتلال بعد عدد من العمليات النوعية في المنطقة، فقالت:" مر علينا عيد الفطر كئيبا حزينا، فكثير من سيدات البلدة لم يستطع ذويهن من خارج البلدة القدوم لمعايدتهن، كما كانت عملية الذهاب إلى السوق لشراء حاجيات العيد صعبة مرهقة، في ظل عدم وجود مواصلات رسمية في البلدة، وعدم قدرة سيارات البلدة على مغادرتها بسبب السواتر، مما يضطر الأهالي للانتظار ساعات على الشارع الالتفافي بانتظار السيارات المتجهة للخليل المدينة من المدن والبلدات المجاورة".
وأكملت يسرى:" خلال الإغلاق الأخير بقيت نفايات البلدة 15 يوما دون نقلها من المكان، فالاحتلال لم يسمح لها بدخول البلدة، كان الوضع مأساويا حقا".
وتابعت: في موسم الزيتون أيضا نعاني، في المنطقة القريبة من المستوطنة حيث تحتاج لتنسيق من قِبل الصليب الأحمر، ويحدد يوم واحد فقط لقطف المحصول، ومن فاته هذا اليوم ضاع عليه المحصول".
تداخل الحديث حول معاناة البلدة، فتارة كان يسوقنا للإهمال الرسمي وتدني الخدمات، وتارة نصل للحديث عن المعاناة مع الاحتلال والاستيطان، وفي مرة ثالثة نقف على مشارف الكلمات ليكون محور الحديث عن الإغلاقات المفاجئة التي تتعرض لها مداخل البلدة... لكن شيء واحد كان متفقا عليه، "كرمة" تعاني وتستصرخ بلا مجيب.. وفي نهاية الحديث كان "المطبق" المعد بشكل أساس من اللوز وزيت الزيتون حاضرا على السفرة، فهم أناس عرفوا كيف يواجهون الاحتلال والإهمال وحدهم.