26.66°القدس
25.9°رام الله
26.54°الخليل
27.21°غزة
26.66° القدس
رام الله25.9°
الخليل26.54°
غزة27.21°
الإثنين 07 أكتوبر 2024
5جنيه إسترليني
5.38دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.19يورو
3.81دولار أمريكي
جنيه إسترليني5
دينار أردني5.38
جنيه مصري0.08
يورو4.19
دولار أمريكي3.81

الأتراك ومقابر الانقلابيين

علي العتوم
علي العتوم
علي العتوم

مما جاء في أخبار السيرة أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – عاد خادماً له يهودياً من مرض ألمَّ به، ودعاه إلى الإسلام فأسلم، وعندما فاضت روحُه قال لأصحابه: خذوا أخاكم فواروا جثمانه في مدافن المسلمين. قفز إلى خاطري هذا الخبر وأنا أسمع في الأنباء قبل أيام أن الشعب التركي طلب أن يُقبر من قُتِل من الانقلابيين في مقابر لهم خاصة، وليس في مقابر الأتراك العادية كأيّ مسلم آخر، وكأنهم يعدّون هؤلاء نشازاً في المجتمع التركي المسلم، لا يستحقون أن يُدفنوا في مدافنه، بل لا يحبون أن يجاوروهم – لخيانتهم بلدهم – حتى في الممات!!

  ولا أعني بهذا أنني أرى أن الانقلابيين في تركيا غير مسلمين أو خارجون من الملة كما يقولون. فنحن – حاشا لله – لسنا (مكفّراتية) أو أصحاب صكوك غفران، أو قاعدين للتّرصّد لكل من يرتكب خطأً مّا أو يخالفنا الرأي أو حتى يعمل عملاً منكراً لنحكم عليه بالهرطقة أو نقذفه في النار. فهذا ليس من شأننا، ولا من وظيفتنا نحن الدعاة إلى الله لأننا لا نُكفّر مسلماً أقرّ بالشهادتين وعمل بمقتضاهما كما قال مرشدنا الأول البنّا، ومن ثم فنحن دعاة لا قضاة كما قال مرشدنا الثاني الهضيبي رحمهما الله.

  إنما أعني هنا امتداحاً لذلك الشعب المسلم في صدق تدينه، وإكباراً له في طهر معتقده، وثناءً عليه في صافي خِلاله، وتنويهاً به في حساسية شعوره في النظر إلى مرتكبي المفاسد ومثيري الفتن، والساعين إلى العبث بأمن وطنهم واستقراره وعدم التساهل معهم، أو قبول التآمر على بلدهم من أبناء جلدتهم الذين غرّهم المال والجاه وسعة الانتشار وخاصة إذا أحسوا أن أعداء الإسلام التقليديين من كفار الصليبيين وأنجاس اليهود لهم أدنى ضلع في مثل هذه الحركات التخريبية.

 أقول هذا، وأنا أقرأ في التاريخ العربي قبل الإسلام مثل هذا الموقف في روحه وقَفَه العربُ حتى في جاهليتهم ضد مَنْ تآمر على الكعبة المشرفة، وهو أبو رغال الذي دل جيش أبرهة عليها ليهدمها. فلما مات أصبح قبره عندهم مرجماً لكل مَنْ يمر به منهم، وكأنه الشيطان الرجيم أو إبليس اللعين !! فياللعظمة التي تُنبي عن مروءة وشهامة وحبٍّ عميق للدين، ولو برسيس العواطف الكامنة ورهافة الأحاسيس النافرة من كل مَن يسعى لمسّه بأدني قَدْرٍ. ولعل مثل هذا ما حصل لرئيس مصر صاحب الانقلاب على فاروق عندما هلك، إذ فاضت عليه دورة مياه المسجد الذي دُفن فيه كما هو شائع هناك، لاستخفافه الشديد بالدين ومحاربة أهله أشد محاربة.

  وإنني إذ أمتدح قوة العاطفة الدينية عند سواد الأتراك، وهو شيء معروف عنهم، وأثني على صدق توجّههم للتقدم نحو الإسلام والعمل به إلى درجة التفكير جديّاً بالعودة إلى عظمة تركيا الخلافة شعباً وحزباً حاكماً، فإنني أمتدح في هذا الشعب كذلك خاصة وطنيته الصادقة التي لا تقبل الدَّغل ولا تحتمل الدَّخل يسري في أوساطهم على حساب مصلحة بلادهم، ولاسيّما إذا أتى من الدول المعادية أصلاً لتركيا وإسلامها، أو عملائهم المتواطئين معهم ولو كانوا يسمون أنفسهم مسلمين، ولهم من الهيل والهيلمان والقوة والسلطان ما لهم من أمثال (جماعة الخدمة)، وذلك لارتباطاتهم المشبوهة بالخارج ولفهمهم غير السوي للإسلام.

  ونحن في الحركة الإسلامية جميعاً نعدُّ – حقاً – الدفاع عن الوطن وصيانته وتحريم خيانته ديناً من الدين. فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُخرَجُ من مكة ويقيم في موطنه الجديد لم ينسَ مكة يوماً، بل كان دائم التفكير بالعودة إليها وتسيير السرايا لتمهيد الطريق لاستنقاذها من أيدي من يفسد فيها من المشركين، ومن ثم يرفع عليها راية الحق عالية خفّاقة. فحب الأوطان عندنا شيء مغروز في أذهاننا ومتمكّن في نفوسنا لما تعلمناه من ديننا الحنيف ومن سير أبطالنا المجاهدين خدمة لدينهم ودفاعاً عن أوطانهم كالخطّابي في المغرب والمختار في ليبيا والقسام في فلسطين والحاج شامل في قفقاسيا وهنانو في سورية وغيرهم وغيرهم كثير.

 أقول هذا معجباً بحنوّ الأتراك على المعاني الدينية المغروسة في نفوسهم منذ مئات السنين حنوّ محبة وتمسّك وحفاظ على الحق لأصحابه والتصدي للمعتدين عليه مما يُسَمّى عامة بالديموقراطية وهو في حقيقته عند الأتراك حنين للرجوع إلى الإسلام والحفاظ على مشروع النهوض به والالتفاف حول من يحمله، وخاصة إذا صدق مع شعبه. ومن هنا جاءت هبّتهم للحفاظ على سياسة الحكم عندهم واستجباتهم لدعوة رئيس الجمهورية في الإهابة بهم للوقوف ضد الانقلابيين، مما كان لهم الدور الأكبر في إفشاله وتخييبه. هذا إلى اهتمامهم بمحبة وطنهم والحفاظ على كيانه وحراسة حدوده.

وأردف فأقول : جميلٌ أن يدافع الأتراك - مع دفاعهم عن دينهم - عن قوميتهم ووطنيتهم وديموقراطيتهم. غير أنني أقول في الوقت نفسه – والعجب يأخذ مني كلَّ مأخذ - : ما الذي أصاب العرب اليوم حتى بدَوْا لا هم يدافعون عن دينهم ولا عن قوميتهم ولا عن أوطانهم ولا عن ديموقراطيتهم ؟! فهل - وهم يعرضون عن تحكيم دينهم في أمورهم، بل يتهمون أصحابه ويطاردونهم – يحترمون دينهم ؟! وهل – وهم يكمِّمون أفواه شعوبهم - يحترمون مواطنيهم ؟! وهل – وهم يصالحون مغتصبي ديارهم - يحترمون أوطانهم؟! وهل – وهم يقدّسون جلاديهم من العساكر ويقرّون بانقلاباتهم الانتهازية – يعدّون أحراراً وذوي شهامة ؟! وهل – وهم يفعلون كل هذه الأفاعيل أو أحدها على الأقل – يعدون مواطنين صالحين أو مواطنين أصلاً ؟!

إن أمثال هؤلاء العرب من ساسةٍ وأحزابٍ ووجوه مجتمع مدني وأكاديميين ممن يخون دينه وشعبه ووطنه - على رأي الأتراك في عدم دفن الانقلابيين في مقابر المواطنين العادية، وهو رأي يُقدّر ويحترم – ليسوا فقط لا يستحقون إنْ ماتوا أن يُدفنوا مع المواطنين الصالحين، بل إنهم في حياتهم لا يستحقون أن يكونوا في عداد هؤلاء، بل يجب كما في الرأي العشائري أن يُشُمَّسُوا أو في حكم الإسلام أن يُفاصَلُوا أو يُقام عليهم الحدّ وتسحب منهم جنسياتهم، إذ ليس حريّاً أن يكون مسلماً صادقاً أو عَرَبيّاً شهماً أو مواطناً جديراً بالوطن أو مسؤولاً مرحّباً به من يتًّصف بهذه الصفات الزرية.

وأقول أخيراً : واعجباً، أعجز العرب اليوم عامة أن يفعلوا فعل أجدادهم حتى الجاهليين الذين أشبعوا قبر الخائن أبي رغال لخيانته قذفاً بالحجارة، وهم اليوم يقدمون لأصحاب الانقلابات الظالمة والعساكر الغَشَمَة والحكام المستبدين باقات الفل والقرنفل وبشبعونهم تصفيقاً إعجاباً بهم وهتافا بحياتهم، بل يضعون أحذيتهم على رؤوسهم من شدة الذلَّة والمهانة، والبله والغفلة، ولا يكونوا كإخوانهم من الأتراك الذين أقول لهم مجدداً: (عفارم) عليكم في توجهاتكم الوطنية والقومية والدينية، وإلى الأمام، والله الموفق للصواب...