أزمة مالية خانقة في جنوب الضفة الغربية وتحديدا قرى الخليل وبيت لحم، أمر ليس بالجديد .. فمنذ سنوات يعاني سكان الجنوب من نضوب الآبار وقلة المياه وسيطرة المستوطنين على الجزء الأكبر منها.
لكن العدوى انتقلت إلى مدن وقرى وبلدات الشمال، فمنذ شهرين (أي قبل دخول فصل الصيف)، مرت محافظة نابلس بمدينتها وقراها وتحديدا الشرقية والشمالية بأزمة مائية غير مسبوقة. وبدأ الضجر يسود المواطنين إلى الحد الذي دعوا فيه المجالس البلدية والقروية للاستقالة بعد عجزهم عن توفير المياه.
ومنذ عشرين يوم تقريبا دخلت محافظة جنين على الخط -كما يقولون-، إذ تعاني من نقص كبير بالمياه وانقطاعه عن أحياء بأكملها، ما دفع بالمتضررين إلى شراء صهاريج المياه بأثمان عالية.
يأتي كل هذا وسط غياب أفق لدى سلطة المياه ووزارة الحكم المحلي التي تشرف على البلديات والمجالس القروية لحل المشكلة التي باتت تتكرر في كل عام.
شكاوى بالجملة
وسط مدينة جنين، يجلس المواطنين على عتبات منازلهم ينظرون لبعضهم البعض، ويشكون بصوت مرتفع من مشكلة المياه. يقول شاكر أبو الرب إن "الحياة أصبحت جحيما، بعد انقطاع المياه عن منزله منذ حوالي عشرة أيام، وهروب البلدية من تحمل مسئولياتها".. يتابع "نتصل على أرقام البلدية، فكلها مشغولة، وإذا كان هناك رد، فهو يردون بأنهم يعملون على حل المشكلة ولكننا بتنا ندرك أنهم يكذبون علينا".
ويضيف "هل يعقل أن عمارة سكنية مكونة من 8 طبقات وبها نحو 30 أسرة لا يوجد بها نقطة ماء واحدة!! كيف نشرب وننظف ونستحم ونتوضأ؟؟ كيف نقضي حاجتنا!! تخيل نحن نذهب إلى المسجد القريب ونأخذ معنا العبوات والتنكات الصغيرة لملئها حتى ندبر أمورنا!!".
أما جارته أم يوسف الميثلوني فتندب حظها على ما حل بها وبعائلتها. تصف أحوالهم قائلة "هل يعيش الإنسان بدون ماء؟؟ كانت تقطع الكهرباء كثيرا وتأقلمنا.. لكن أن لا تصل المياه لبيتي منذ 15 يوما!! فهذا الكفر بعينه!!".
ولا تجد ربة البيت من بديل سواء بطلب المياه من المخزون الذي تحتفظ به جاراتها وقارب على النفاذ.. كما أنهم يضطرون لشراء المياه المعدنية ليس للشرب فقط بل لاستخدامها في قضاء حاجيات البيت..
تقول "كل يوم يشتري زوجي صندوق مياه معدنية وعندما يعود أولادي من أعمالهم يأتي كل واحد منهم بصندوق.. اذهب وانظر إلى مطبخي ستجد العشرات من العبوات الفارغة، هل هذه حياة؟".
شراء مكلف
غير أن حظ أبو عبد الله من حي المراح في جنين أفضل قليلا. فهو يشتري صهريج مياه بسعة 3 كوب كلما نفذت المياه من عنده. لكن السعر مرتفع جدا وهو مضطر لذلك.
يقول "لم يعد سائق سهريج البلدية يرد على اتصالاتي فقد حفظ الرقم. لذا أتواصل مع موزعي مياه يأتون من القرى المجاورة وقد ملئوا الصهاريج من مياه الينابيع. سعر الكوب الواحد يصل لـ100 شيكل، وسعره الحقيقي 25 فقط من البلدية، أي أنني أدفع 4 أضعاف".
ولا تستطيع البلدية منع موزعي الصهاريج الذين يعملون لحسابهم الخاص، نظراً لعدم وجود قانون يتيح ذلك، إضافة لحاجة السكان للمياه بعد انقطاعها عنهم.
أما علي السيلاوي فقد اشترى قبل شهرين خزانا إضافيا ووضعه على سطح منزله، لتعويض النقص في المياه، فقد كان يتوقع أن تتطور الأمور للأسوء.
أسباب عدة
رئيس بلدية جنين راغب النادر أوضح لـ"فلسطين الآن" أن المشكلة عامة في جنين ولا تمس أحياء عن غيرها نظرا للنقص الذي تعانيه في المياه، نظرا لعدم وجود مصادر مائية تملكها البلدية، إلا بئرا واحدا وهو بئر السعادة الذي انخفضت إنتاجيته بشكل كبير، إذ أنه بحاجة إلى تأهيل من جديد وصيانة.
وتحتاج جنين في الأوضاع العادية لـ12000 كوب يوميا، لا يصل منها حاليا إلا 3500 كوب.
وتكلف دائرة المياه في البلدية نحو مليون شيكل شهريا، بينما لا تجني منها إلا 400 ألف فقط، ما يعني أن هناك ديوانا مستحقة للبلدية على المواطنين، تزيد عن 20 مليون شيكل، وهو رقم لو توفر لساعد في تطوير خطوط المياه وحفر آبار إضافية، حسب رئيس البلدية.
وطالب النادر بضرورة وضع قانون يلزم المواطنين بالدفع أولا وترشيد استهلاك المياه ومنع أي اعتداء على شبكات المياه لتخفيف الفاقد منها الذي فاق المتوسط العالمي، حيث أن الفاقد في البلدية تصل نسبته إلى حوالي 50 بالمئة بينما المقياس العالمي لا يتعدى 25 بالمئة.
دور خبيث
هو ذلك الدور الذي تلعبه شركة المياه الإسرائيلية "ميكروت"، التي تتحكم بكمية ومواعيد وصول المياه للضفة الغربية. فقد عمدت خلال شهر رمضان المنصرم إلى قطع المياه عن مناطق واسعة في الضفة الغربية وتقليص كميات الضخ، ما فاقم معاناة المواطنين.
لكنها عادت وبشكل مفاجئ، لقطع المياه عن مناطق واسعة في الضفة، ما أدى إلى زيادة معاناة أهالي هذه المناطق التي لا تحصل بالأساس على الحد الأدنى المطلوب من المياه.
وقالت سلطة المياه الفلسطينية إن الشركة الإسرائيلية ستخفض كميات المياه عن مناطق أخرى في الضفة الغربية لتصل إلى النصف خلال الفترة المقبلة.
وبحسب منظمة "بيتسيليم" الإسرائيلية فإن معدل استهلاك الفرد الفلسطيني في الضفة للمياه للأغراض المنزلية يعادل نحو ربع نظيره الإسرائيلي.
كما أن نسبة المياه التي يحصل عليها الفلسطينيون من مياه الأحواض الجوفية أقل من 15%، في حين يحصل الإسرائيليون على أكثر من خمسة أضعاف تلك الكمية، عدا عن السيطرة على غالبية الموارد المائية المتجددة في فلسطين والبالغة نحو 750 مليون م3 سنويًا عدا عن سيطرتها على نهر الأردن وطبريا ومصادر مياه البحر الميت.
وتشير أحدث الإحصائيات إلى أن حاجة الفلسطينيين لمياه الشرب حتى العام 2026 ستصل إلى 260 مليون م3، وإذا بقيت الموارد المائيّة على حالها فإنّ الجهات المعنيّة لن تكون قادرة على تلبية أكثر من 50% من احتياجات المواطنين للمياه.
خطوة كارثية
أما رئيس قسم المياه في بلدية نابلس المهندس عماد المصري فأكد لـ"فلسطين الآن" أن "الخطوة الإسرائيلية تعني كارثة بكل المقاييس، لما يترتب على ذلك من معاناة السكان في ظل الأجواء الحارة... سلطات الاحتلال تسيطر على مخزون المياه بالضفة الغربية وعلى جميع الآبار ولا تعطي الفلسطينيين إلا كمية قليلة".
كما لفت إلى أن سلطات الاحتلال تستولي على 95% من حوض الماء الغربي الواقع في محافظة سلفيت وتزود قرى وبلدات سلفيت فقط بـ5% من مياهه وعلى شكل متقطع وتحظر حفر آبار ارتوازية. موضحا أن محافظة سلفيت تقع فوق حوض الماء الغربي، الذي يقوم الاحتلال بسرقة مياهه، وإعادة بيعها للفلسطينيين، وتزويد المستوطنات بالمياه منه.
استنزاف المصادر
بدورها، حذرت جمعية حماية المستهلك الفلسطيني من خطورة قرار شركة "ميكروت" الإسرائيلية تخفيض كميات المياه التي تضخها لمناطق شمال الضفة الغربية وفي منطقة الخليل، خصوصا أن الاحتلال يستنزف المصادر المائية الفلسطينية ويمنع الشعب الفلسطيني من الاستفادة من مصادره المائية التي تعد حقا طبيعيا له.
وفي بيان صحفي وصل "فلسطين الآن"، قالت: إن "استمرار بيع المياه بأسعار مرتفعة ودفع الشعب الفلسطيني صوب مصدر مائي أساسي وهو مياه التحلية بأسعار مضاعفة يعد إمعاناً في استلاب حقوقنا المائية، علما بأن الموقف الفلسطيني الثابت كان ولا زال تحصيل حقوقنا المائية الأساسية والمحرومين منها من الاحتلال، ومن ثم نقرر على أساس السيادة استخدام مياه التحلية".
وكان خبراء في مجال المياه أكدوا أن تقليل ضخ كميات مياه للضفة الغربية وقطعها عن عدة مناطق في الشمال، يهدف إلى تسويق مياه التحلية الإسرائيلية المنتجة في محطة الخضيرة لتحلية المياه.
وأوضحوا أن الاحتلال يحاول خلق مشكلة في مجال المياه من أجل إجبار الشعب الفلسطيني وحكومته، على شراء مياه من محطة الخضيرة بعد سرقة المياه الفلسطينية من مختلف محافظات الضفة الغربية، خصوصا من سلفيت.
وأوضحت سلطة المياه الفلسطينية أنها توزع المياه من مصدرين: أولهما الآبار الموجودة في مختلف أرجاء الضفة الغربية، وثانيهما شراء المياه من الشركة الإسرائيلية "ميكروت"، وهي تقوم حاليا بالعمل على مدار الساعة من أجل توفير المياه للمواطنين.
القطع والتقليص
والمناطق التي قطع أو قلص الاحتلال من المياه الواردة إليها، في نابلس، هي: حوارة، وعزموط، ودير الحطب، وسالم وبرقة وبزاريا، إلى جانب بلدات وقرى سيلة الظهر، والفندقومية، وبزاريا، وبرقة، والعصاعصة، في جنين، إضافة لقرى وبلدات تفوح، وبديا، وجماعين، وبيت ليد، وجينصافوط، بين سلفيت وقلقيلية، ما يعني أن تشهد هذه المناطق أزمة خانقة في المياه.