في بلدة المجد، التي تتربع هادئة وادعة جنوبي مدينة دورا قرب الخليل، تحتضن بين حناياها قصة مجد، رسمتها همة عالية، وبصيرة متوقدة لشباب يانع، رضي بقضاء الله وقدره، فأقبلوا على الحياة بهمة وبهجة.
كان الحديث بداية للماجدة التي رافقتهم طريق النجاح، فكانت من زرع فيهم المثابرة، وساعدتهم لتخطي العقبات، هي أم لخمسة من الذكور وثلاثة من الإناث، كان قدرها أن يكون ثلاثة منهم في زمرة المكفوفين، وطفل صغير يعاني من نقص أكسجين حين الولادة أثر على نطقه ومشيه. حيث فقدوا البصر في سني عمرهم الأولى، وفي حديث خاص لـ"فلسطين الآن"، قالت وضحة عمرو:" عانى أبنائي من مرض العشا الليلى وضعف شبكية العين، حيث تم اكتشاف المرض في عامهم الدراسي الأول من المرحلة الأساسية، وأخبرني الأطباء بأن لا علاج لهم، فابنتي رشا باتت كفيفة بشكل كامل وتدريجي كما محمد، أما هيثم فما زالت في عينية بقايا ضوء".
وأكملت عمرو: " أكثر ما عانيته معهم كان في المراحل الدراسية، درسّت ابنتي رشا جميع المراحل الدراسية حتى السنة الجامعة الأولى، إلا أن ازدياد المسؤوليات على كاهلي منعني من أداء نفس الدور مع محمد وهيثم، فكنا نستقدم لهم معلمين للمنزل لتدريسهم، وكانت أسوأ ساعات نهاري أولها، فأنا مضطرة لمساعدة جميع أبنائي في تجهيز أنفسهم للذهاب للمدرسة في وقت واحد".
طموح بلا حدود
رشا يوسف عمران أتمت دراستها الثانوية في مدرسة المجد وحصلت على معدل 87.4 في الفرع الأدبي، وأكملت دراستها في جامعة الخليل، حيث تخرجت بمعدل 87.5 بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف الثانية، ثم تابعت دراستها لدرجة الماجستير تخصص أصول الدين تخصص تفسير ، ثم حصلت على وظيفة في مؤسسة مركز المصادر للتربية الخاصة بقرار من محكمة العدل العليا بعد تعطيل تعيينها لفترة طويلة .
تقول رشا بأنها تعلمت الحاسوب للمكفوفين في جامعة القدس المفتوحة، فيما تعلمت لغة بريل عند إحدي صديقتها ، ثم حصلت على حاسوب ناطق من جمعية أصدقاء الكفيف بعد دورة تميزت فيها، وهي الآن تقوم ضمن عملها بوظيفة معلم متنقل لخدمة الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية، وهي منهم . وحول الصعوبات التي واجهتها تقول رشا: " نحن فقدنا البصر، لكن آخرون فقدوا سعادتهم أو ذكائهم الدراسي، فكل إنسان يعاني من نقص، وقد اختارني الله لأن يكون لدي فقدان البصر، وكفى بها نعمة التي تبدو في ثوب محنة".
وتكمل رشا: "أصعب ما واجهته عقب الانتهاء من مرحلة الثانوية العامة مهاجمة المجتمع المحلي من حولنا لفكرة دراستي الجامعية"، وهنا وجهت رشا كلمتها للمجتمع المحلي. مشيرة إلى أن سبب النجاح والفشل للأشخاص خصوصا أولئك الذين يعانون من مشاكل معينة، لكنها لم تنس أن تشكر كل أولئك الذين ساعدوها لتصل ما وصلت إليه، ابتداءً من والدته التي رافقتها في كل مراحل دراستها ثم معلماتها وزميلاتها اللواتي كن يتسابقن لمساعدتها".
تطمح رشا بإنهاء درجة الدكتوراه، والحصول على الوظيفة التي تناسبها بعد ذلك لخدمة وطنها، كما تطمح لتقديم دورات تدريبية في الإعاقة البصرية وموائمة المجتمع.
معاناة مضاعفة
هيثم يوسف عمران حصل على معدل 82.3% في الثانوية العامة، عانى مثلما عانت رشا بكل التفاصيل وزيادة،. تنقل هيثم بين مدارس حكومية عادية، وأخرى للمكفوفين، لكنه يرى بأن مدراس المكفوفين لا تقدم القدر الكاف من التعليم، فهم لا يتقنون تعليم لغة بريل للطلاب مثلا، وحتى كتب بريل والكتب المسجلة فقد عرفنا عنها متأخر جدا، فعلى اتحاد المعاقين ومدارس المكفوفين، أن تعرف المكفوفين بما يساعدهم في العملية التعليمية للتسهيل عليهم، فهو يدرك تماما بأنه لو تم تعريفه بالوسائل التعليمية الخاصة بحالته لحصل على معدل أعلى في التوجيهي.
أكمل هيثم دراسته الجامعية في جامعة الخليل تخصص فقه وتشريع، ثم تم تعيينه خطيبا وإماما بعقد في مسجد الموحدين التابع لوزارة الأوقاف والشئون الدينية ، إلا أنه عمل لعامين متواصلين بشكل تطوعي دون راتب ، ليكتشف بعد هذه المدة بأن أوراقه لم ترفع أصلا للوزارة لتعيين بشكل رسمي وبمقابل مالي، وبعد جهود مضنية استطاع الحصول منذ ثلاث سنوات على عقد يجدد سنويا، ويقول: " وأنا الآن متزوج وأب ولكني للآن أجهل مصيري الوظيفي كوني غير مثبت في وظيفتي، فاحتمال إنهاء عقدي قائم في أي لحظة لأصبح عالة على عائلتي".
تحد بإعاقتين
محمد يوسف عمران، أنهى دراسة الثانوية العام الحالي بمعدل 91%، وتم تسجيله في جامعة الخليل بنفس النهج الذي سلكه شقيقاه من قبله، فالخيارات محدودة أو تكاد تكن معدومة. لكنه محمد له وضعه الصحي الخاص.
ولد محمد فاقدا للبصر، ثم ازدادت معاناته حينما وصل للصف الخامس الأساس، حيث تعرض لحادث سقوط من علو أفقده السمع أيضا.
محمد يحلم بإنهاء البكالوريوس ثم الحصول على وظيفة تؤهله للحصول على درجة الماجستير والدكتوراه في تخصصه.
وحول مجاراة التكنولوجيا المحيطة بنا يقول محمد: " بدأت الدخول لعالم الانترنت منذ الصف الخامس الأساس، حيث تعلمت برمجة المواقع الالكترونية، كما أُنشأت إذاعة خاصة عن طريق البث المباشر عبر الانترنت، إضافة للموقع الذي أنشأته للقرية، فأنا أدير صفحة إخبارية تعنى بكل أخبار البلدة والمستجدات من حولنا وبفضل الله حظيت بمتابعة جيدة، فأنا أجيد التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي، لكنني لا أستطيع أن أحلم مثلا بإكمال دراستي في مجال الحاسوب والبرمجة، فالإبصار فيها أساس، ولا يوجد جامعات هنا مؤهلة لتوفير هذه التخصصات لنا، وختم محمد حديثه بنصيحة لطلبة الثانوية العامة تحديدا، مشيرا إلى أن الإعاقة لا تحد من الإنجازات، وكل ما يلزم هو عزيمة وإصرار وتحد".