كسرة خبز مصبوغة بحمرة لون الدم وكأنها جريحة في معركة شرسة بين ظالم ومظلوم، وبقايا طعام متناثر على الأرض اختلطت فيه غبار التراب وكسته الرمال الطينية البنية اللون وكأنه ضحايا مبعثرة في ساحة قتال بين مكلوم وأنياب مفترسين، تزهق فيها أرواح أنهكها طول المسير، وتضيع فيها أعمار مثل الزهور في قسوة الحياة.
سنوات من الحصار والإغلاق يعيش خلالها سكان قطاع غزة معاناة كبيرة جدًا، ألجأت الكثيرين للعمل المضني داخل الأنفاق على الحدود بين مصر وقطاع غزة بحثًا عن لقمة العيش وستر الحال، راح ضحيته عشرات الشباب أثناء عملهم، وكذلك بسبب الإجراءات المصرية الأخيرة عبر ضخ مياه البحر أو تفجير الكثير منها على الحدود.
لقي ثلاثة شبان من مدينة رفح جنوب قطاع غزة، مصرعهم في الساعات الأولى من فجر يوم أمس السبت، باختناقهم بالغاز أثناء عملهم في أحد الأنفاق الحدودية بعد تفجيره من قبل الجيش المصري يوم الجمعة، كما أصيب آخرون، وأطلق عليهم المواطنون "شهداء لقمة العيش"، وهم عبد الله وليد النامولي (23 عامًا)، سلامة سليمان أبو شوشة (24 عامًا)، وعبيد محمد الصوفي (25 عامًا).
جريمة
داخل مسجد بلال بن رباح غرب مدينة رفح حيث صلاة الجنازة ظهرًا على الشهيدين النامولي والصوفي، وقف والد الشهيد عبد الله النامولي أمام جثمان ابنه ليلقي عليه نظرة الوداع ويقبله، والدموع تنهمر من عينيه ويتمتم بكلمات:"الله يسامحك ويسهل عليك".
مشهد مؤل أثر على كل من حضر، لوالد يبكي ابنه الذي خرج من بيته ليبحث عن لقمة عيشه وقوت يومه، ليسعد هو وزوجته التي لم يمض على زفافهما خمسة أشهر، وهي حامل في شهرها الثالث، وركض ليجلب ما يسد ديونه التي تراكمت عليه، ليسبقه الموت والقدر.
وخلال حديث "فلسطين الآن" مع والد النامولي قال: "الموت حق وليس شدة، واللهم اجعلنا من الحامدين الشاكرين، والموت مصيبة ولكن رحمة الله واسعة، والحمد لله أن الله خلقنا مسلمين مؤمنين نرضى بقضاء الله وقدره"، واصفًا الموقف بغاية الأسى والحزن.
وفي رده على سؤال عن السبب الذي دفع شاب مثل ابنه للعمل في ظروف الأنفاق الصعبة، أجاب: "لقمة العيش والجري واللهث وراء لقمة العيش وسترة الحال والدين، والكل يعلم وضع قطاع غزة المادي".
وأكد أن ابنه لن يكون الإنسان الأول ولا الأخير ما دام ما اعتبره الشقاق والانقسام الفلسطيني الفلسطيني موجود، واعتبر أن "هذه ليست جريمة فقط، هذا الكفر في حد ذاته، الاعتداء على مسلم وإراقة دم مسلم سيحاسب كل الساسة على هذا، بإهدار دم المسلمين والشعب، وسيسألون عنه أمام الله، ونحن نفوض أمرنا إلى الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل".
ووجه رسالة إلى مصر بقوله: "نقول للساسة وليس لمصر، لأن مصر بشعبها هي الحضن الحاضن للإسلام والعروبة، نقول للساسة حسبنا الله ونعم الوكيل"، وأضاف: "حسبنا الله ونعم الوكيل على الساسة العرب وليس الشعوب لأنها حقها مهضوم مثلنا".
وطالب النامولي المؤسسات الحقوقية برفع قضايا في الجرائم التي ترتكب على الحدود، مستدركًا "ولكن قبل أن نطالب المؤسسات يجب أن نجلس تحت الخيمة الفلسطينية في الضفة والقطاع، ونتق الله فيمن كانت أطفالهم صدور ودرع أمام الجبروت الإسرائيلي".
حصار ظالم
ومن جانبه اعتبر ابن عم الشهيد الصوفي جبريل الصوفي أن ما حدث مع الشباب في النفق هو جريمة بمعنى الكلمة، جريمة أن يقتل الشباب داخل الأنفاق التجارية بهذه الصورة، سواء عبر ضخ الغاز السام أو الإغراق بماء البحر، وهذه الحالات تكررت كثيرًا.
ودعا في حديثه لـ"فلسطين الآن" جميع المسئولين عن هذه البلد أن يقفوا وقفة جادة لرفع الحصار، مطالبًا "رئيس السلطة محمود عباس بضرورة رفع الحصار لأنه المسؤول الأول عن هذا الحصار"، وأضاف يجب عليه أن يتحرك فورًا من أجل رفع الحصار، "لأنه لولا الحصار لما عرفنا الأنفاق ولما احتاج هؤلاء الشباب لهذه المعاناة والجرائم التي ترتكب ضده".
وتابع بقوله: "نقول لمصر إن هذا الجوار التاريخي لفلسطيني يجب عليه أن يبتعد عن هذه الجرائم ضد الشباب الفلسطيني وضد قطاع غزة ، لأنه لا يأتيكم من غزة إلا كل خير، فلماذا تردون على هذا الخير بهذه الجرائم بإغراق الأنفاق وضخها بالغاز، وتسببون بقتل الشباب الذي يسعى إلى قوته اليومي ويبحث عن مصدر رزقه من خلال تلك الأنفاق".
وأكد الصوفي أن هذه الجريمة يجب أن تكون مدعاة لكل الهيئات والمؤسسات الحقوقية والدولية أن تنظر إلى قطاع غزة نظرة جدية من أجل رفع الحصار وإنهاء معاناة قطاع غزة.
والجدير بالذكر أن عائلة الصوفي فقدت أيضًا أحد أبنائها في بداية شهر فبراير الحالي داخل أحد الأنفاق جراء قصف إسرائيلي، وهو الشهيد حسام حميد الصوفي.
وبدورها استنكرت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في بيان لها أمس السبت، هذا الحادث الأليم، مؤكدةً أنه لا يوجد أي مبرر لاستمرار السلطات المصرية باستخدام مثل هذه الأساليب الخطيرة في التعامل مع سكان القطاع المحاصرين.
ودعت الأشقاء في مصر إلى فتح معبر رفح بشكل دائم لإنهاء معاناة غزة وأهلها، مشددة على حق شعبنا بالعيش بحرية وكرامة كباقي شعوب العالم، وعلى المجتمع الدولي التدخل لإنهاء هذا الحصار الظالم.