24.38°القدس
24.08°رام الله
22.75°الخليل
27.3°غزة
24.38° القدس
رام الله24.08°
الخليل22.75°
غزة27.3°
الإثنين 30 سبتمبر 2024
4.99جنيه إسترليني
5.27دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.17يورو
3.73دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.99
دينار أردني5.27
جنيه مصري0.08
يورو4.17
دولار أمريكي3.73

بالصور: روتردام: المدينة الأوروبية التي تشبه دبي

س
س

تعتبر مدينة روتردام الهولندية مدينة الخيال بالنسبة لعشاق فن العمارة، فعندما تزور المدينة غالباً ما تعود إلى بلدك وأنت تتسائل: لماذا لا تكون مدننا كتلك المدينة؟

عندما تستقل القطار للوصول إلى روتردام، يمكنك عند مغادرة المحطة أن تستدير كما فعلتُ أنا الشهر الماضي لتضع حقائبك وتتأمل في أكثر بناء مبهج على الإطلاق في العالم.

إنه مبنى محطة روتردام، أكثر مركز مواصلات مفعم بالحيوية منذ بناء مركز الطيران "تي دبليو إيه" الذي صممه المهندس المعماري إيرو سارينين في مطار إيدلويد، الذي سُمي لاحقاً مطار "جي إف كيه" في الولايات المتحدة الأمريكية على اسم رئيسها الراحل.

ويبدو مبنى محطة روتردام، المكون من الفولاذ والزجاج والخشب، كأنه يحلق بكل رشاقة، متخلصا من الجاذبية الأرضية.

قصة منازل وشوارع نصفها في هولندا والآخر في بلجيكا

في أي مدينة أخرى، كان يمكن اعتبار مبنى المحطة هذا تحفة فنية، وربما شيئاً مغايراً للمعتاد، مثل متحف غوغينهايم في مدينة بيلباو بأسبانيا، أو ستي هول في تورنتو. لكن في روتردام، هذا هو مكانه الصحيح. لأنها مدينة التجارب الجريئة، فهي المطبخ المعماري التجريبي في أوروبا، وتشبه مدينتي دبي أو الدوحة، اللتين بنيتا بعد الحرب العالمية، لكن بشكل أفضل منهما.

فبدل أن تكون قد بُنيت من قبل جيل واحد من الأغنياء من أجل بناء سمعة لها، كان تطور روتردام طبيعياً على مدى ثلاثة أرباع قرن، تلبية لمتطلبات سكانها والأوقات التي مروا بها.

وهي مدينة للعيش، والمشي، وركوب الدرجات الهوائية، لكنها تُدار كما تدار تلك الدول الخليجية الحديثة بطريقة تُبهرك في كل تفاصيلها، ليس بمبنيين أو ثلاثة، مثل هرم ترانساميركا هنا، وقاعة والت ديزني هناك، لكن بعشرات المباني الرائعة الأخرى. لكن ماضيها لم يكن دائماً كذلك.

ففي 14 من مايو/آيار من عام 1940، وتحديداً في الساعة 1:28 بعد الظهر، سُمعت الأصوات المشؤومة في شوارع المدينة الهولندية قادمة من الشرق. كان ذلك صوت تترقب قدومه، وخلال دقيقة واحدة، أصبح سرب الطائرات المقاتلة يحلق مباشرة فوق توأم أمستردام بقنواتها المائية، وبيوتها الخشبية والحجرية القديمة، فقد كانت روتردام المحرك الصناعي لهولندا، وأكبر ميناء بحري في العالم.

وبعد 15 دقيقة فقط، تركت تلك الطائرات وراءها المدينة تحترق لمدة ستة أيام، حتى لم يعد يبقى منها شيء، واستحالت مساحة 250 هكتاراً، تحمل فوقها 25 ألف منزل، و11 ألف مبنى تجاري، إلى رماد وحطام، وانتهت رودتردام أو كادت تنتهي.

ولم تخمد النيران حتى بعد اجتماع المسؤولين في 18 مايو/آيار، ليقرروا ماذا سيفعلون. ورغم أن الحائط انهار تماماً، كان هناك ما يكفي لإعادة بنائه، كان هذا الخيار المنطقي.

وكان هذا ما قامت به كل من كوفينتري ووارسو وعدد من البلدات الألمانية والمدن التي استطاعت التعويض في السنوات التالية، وإعادة "همتي دمتي" لما كان عليه سابقاً، قطعةً تاريخية تلو الأخرى حتى أن من زارها بعد انتهاء الحرب ومشى في شوارع مدينة القرون الوسطى قد لا يلحظ أنها انهارت.

ولا بد أنه كان هناك نقاش وبعض المطالبات الشغوفة بترميم المدينة العائدة للقرن الرابع عشر، لتضفي نوعاً من الراحة والاستقرار لدى وأجيال وعائلات بأكملها. ورغم ذلك، كان القرار الناتج عن ذاك الاجتماع أن يتم هدمها بالكامل، والبدء من الصفر. وبدأ المعماريُ المقيم في المدينة ويليام ويتيفين فوراً في وضع خطة تهدف إلى أن تكون المدينة جديدة، ولكن عظيمة وذات طابع تذكاري أيضا.

ثم حدث شيء أكثر تميزاً، ففي عام 1944، كانت المدينة لا تزال تحت الاحتلال الألماني، لكن على مشارف نهايته، وطلب سيس فان دير ليو اجتماعاً آخر، لكن سري هذه المرة في غرفة الشاي التي تقع على سطح مصنع القهوة والشاي والتبغ الخاص به والمسمى "فان نيل".

كان المصنع أول قطعة معمارية فنية حديثة في المدينة (سمّاه لو كوربوزيير "أجمل مشهد في العصر الحديث")، وكان بعيداً بشكل كافٍ عن المركز، حيث لم يمسه خراب الحرب. وهناك قال فان دير ليو إن هناك فرصة جيدة.

ويقول مؤرخ فن العمارة في روتردام، ميشيل روفووست: "روّاد القطاع رأوا حلاً أكثر مرونة من فكرة ويتيفين" مشيراً إلى أن التحديث الذي يقوم بدافع تجاري بدأ في المدينة حتى قبل الحرب، مثل مبنى "كافيه يوني" (الذي دُمر وأعيد بناؤه).

ويضيف: "البعض رأى خطته متزمتة قليلاً". لم يكن ويتيفين يفكر بطريقة حديثة وعظيمة بشكل كاف بالنسبة لرجال الأعمال، أو قوات الاحتلال الألماني الذين أعجبتهم فكرة البدء من العدم وبناء مدينة جديدة مستوحاة من نمط الامبراطورية الألمانية (والتي لم تر النور على هذا الشكل).

وقد أقنع فان دير ليو مسؤولي المدينة بطرد ويتيفين وتوظيف مساعده كورنيليس فان ترا للقيام بشيء أكثر جرأة ومختلف تماماً.

ويقول بروفووست: "طرح فان ترا مدينة ذات عناصر عائمة. وكانت هذه لحظة ولادة روتردام الجديدة ذات الطراز المعماري الأكثر جديةً وكثافةً ومرحاً وابتهاجا".

وعندما تنتهي من التحديق بمحطة روتردام، يمكنك أن تستقل إحدى قطارات الترام إلى محطة بلاك لتأخذ فكرة أوسع عن المدينة.

وعندما تخرج من نهاية نفق المحطة المصمم كذيل الطاووس معلَّقاً على طرفه، سترى عملين معماريين من فترة نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين.

فعلى يمينك، سترى ما يعرف بشكل "كوبسونينغين" للمعماري بيت بلوم (1980-84)، وهو عبارة عن 39 بيتاً مكعباً منضداً بجانب بعضه البعض وبطريقة ترتكز فيها قمة كل بيت على جذع الآخر، ما يجعلها تبدو وكأنها غابة حجرية.

أما على اليسار، ستجد سوق "ماركثال" (2014)، وهو سوق معماري مبني على شكل حدوة الحصان في أطرافها مجمعات سكنية مشتركة، وبيوت مستقلة. وفي الداخل هنالك مزيج من الأشياء والأطعمة المعروضة للبيع (وبالطبع الكثير من حلوى الوفل الهولندية).

بالإضافة لتميز المكان، وتصميمه البسيط والمميز جداً، فهو يعبر عن التطور المنطقي للمدينة وحاجتها لسوق يجتمع فيه الناس ويتناولون الطعام، ويتفاعلون معا.

لكن جمالية روتردام تكمن فيما تراه بين هذه التحف الفنية، فإذا نظرت خلفك إلى محطة الترام سترى مبنى "بلاك 8" (المجموعة أ - 2012)، وهو مبنى للمكاتب مصمم بطريقة عصرية، تتخذ نوافذه شكل شبه منحرف، ويلتف هذا الشكل كل بضع طوابق بشكل مغاير.

وعلى يمينك مبنى مكتبي آخر وهو "بلاك 31" الذي يضم مطعماً إيطالياً في الطابق السفلي يرتفع عنه ثلاثة طوابق على شكل دَرج دونما مبرر!

وأعلنت شركة الضرائب التي تشغل غالبية مساحة المبنى أنها ستبني مكتبها الرئيسي الجديد على شكل ساعة رملية، كذلك دون مبرر واضح.

وعادة عندما أسافر، أختار الفنادق حسب موقعها أو تاريخها، أو مرافقها ومميزاتها. أما في روتردام، فأختارها حسب التصميم.

وقد أقمت خلال رحلتي الأولى منذ عدة سنوات في فندق "سيتيزن إم" وهو جزء من سلسلة الفنادق الأوروبية ذات التصاميم رفيعة المستوى ومحدودة الخدمات. فهو فندق منخفض، ومسطح، ويبدو كأنه شيء ما بين مستودع، ومدرسة ابتدائية أقيم منذ السبيعينيات، ويضم بناء آخر مربعا كالمقعد.

أما هذه المرة فأقمت في ليلتي الأولى في فندق الماريوت في برج "ميلينيوم تاور" (2000) وهو يمثل حقبة ما بعد الحداثة في محطة روتردام.

وقضيت ليلتي الثانية في أحدث مكان، وهو فندق بغرفة واحدة اسمه "ويكيلبوت"، وهذه الغرفة العائمة التي تقع على مرسى السفن مؤلفة من 24 طبقة من الورق المقوى المغلف مع امتداد خشبي خارجي للغرفة يصلح للشواء. ويعد الفندق جزءا من مشروع "ريد آبل" (2009).

تهوى روتردام مبانيها مثلما تعشق سانتا مونيكا شواطئها. وأفضل مقهى على الإطلاق في المدينة هو "دودوك" (على اسم مصممه)، وهو مبنى حجري في الطابق الأرضي له طراز ما بعد الحرب يشبه مباني "بوهوس" الألمانية، وله زوايا منحنية وفخمة.

أما النادي الليلي "هوغ" في فندق هيلتون فقد بني على طراز "الحداثة" (1962)، وسُمي على اسم هوغ ماسكانت، المهندس المعماري الأساسي في فترة ما بعد الحرب العالمية. (وهو الذي صمم برج يوروماست، أكبر برج في المدينة).

وتعتبر روتردام أرض الخيال بالنسبة لمحبي فن العمارة تماماً مثل ملاهي ديزني بالنسبة للأطفال. لكنها ممتعة لنا جميعاً ولمن لا يولي أهمية كبرى للمباني التي نعيش أو نعمل أو نلعب فيها، وسنعود بعد زيارتها إلى بلدنا ونتسائل لماذا لا تكون مدننا مثل روتردام بعض الشيء.

سس سسس سسسس سسسسس