"آخر أيام مرض السرطان"، هكذا عنونت أم غزية رسالة وداعها لطفلها الذي انترعه مرض السرطان من بين أحضانها، تصف مشاعرها ووحدتها في رحلة علاجه.
"فلسطين الآن" تنشر لكم نص الرسالة التي نشرتها الأم في ثاني أيام عزاء طفلها:
هم ينامون أغلب الوقت لا يستجيبون مع من حولهم لا يستطيعون الكلام يكتفون بحركة يد أو تعبير وجه
يستسلمون لهذا الشيء الخبيث لا يستطيعون الحراك يفقدون شهيتهم للطعام وللشراب بل للحياة
كنت بغربتي وحيدة مع أحمدي الصغير أحاول تعويضه غياب الأب والأخ والأخت
حاولت كثيرا أن أكون تلك الأم القوية الصابرة
حاولت بكل ما أوتيت من مشاعر أمومة أن أوصلها لقلبك صغيري مع أنه كان نائما طيلة وقته لا يستجيب لا يتحرك فقط يتألم ولكن كنت على ثقة ان قلبه ينبض مع قلبي ويشعر كما أشعر ويعلم بوجودي بجانبه
لن أنسي ذلك اليوم الذي كنت أرجوك فيه أن تستيقظ
لقد بكيت كثيرا ورجوتك كثيرا كنت قد اشتقت لنظرة منك لكلمة ماما اسمعها حتى لو للمرة الأخيرة كنت قد اشتقت لتلك الابتسامة التي لطالما أسرت قلبي
دعوت الله كثيرا وبكيت كثيرا وكأن الله أراد لقلبي الثبات وتشاء إرادته عز وجل أن تستيقظ لدقيقتين طلبت فيها الماء وقبلتني وأرسلت قبلتك لشقيقتك كما طلبت منك ثم عدت لغيبوبتك من جديد
يااااا ربي عن احساسي في هاتين الدقيقتين
قبلتك كثيرا حضنتك كثيرا كدت أن اعصرك
تمنيت وقتها لو أنى أستطيع فتح قلبي وتخبئتك فيه واغلق عليك
يا ربي كم شعرت بالعجز تجاهك يا صغيري
سامحني لم أستطع ان آخذ من وجعك
والله والله والله دعوت الله كثيرا ان يأخذ من وجعك ويصب في جسدي
كان قلبي يعتصر عليك بل يتمزق لا أستطيع فعل شيء
اراك تذوب أمام عيني أمسك بيدك وأقرب من أذنك وأهمس لك انا بجانبك يا وليفي لا تستسلم انا معك ولن اتركك كن قويا لأجلي أرجوك
تضغط على يدي بيدك الصغيرة الهزيلة الناعمة لا تستطيع الكلام ولكن كنت اعرف ما كنت تقصده بهذه الضغطة الضعيفة
والله يا حبيب قلبي أنا راضية كل الرضا بقضاء ربي وقدره
والله إني مسلمة كل اموري لله عز وجل ولا أعترض على أي أمر كتبه الله لي
كنت أردد دائما اللهم أجرني في مصيبتي وأخلفني خيرا منها لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ولا حول ولا قوة الله بالله وانا لله وانا اليه راجعون
كان طاقم الأطباء والتمريض وحتى الاخصائيون النفسيون يستغربونني كيف لك ان تكوني بهذه القوة نحن هنا لنرفع من معنوياتك لنجدد فيك روح التفاؤل ولكنك انت من جددتها فينا
كنت اقول لهم أنا مسلمة وأعرف أن أمر المؤمن كله خير
حتى أنهم عرضو علي أن يبعثوا لأحد من أهلي ليكون بجانبي في غربتي ولكني رفضت رفضا قاطعا
أنا لا أريد أحدا بجانبي أنا قوية بالله تعالى
أريد أن أقضي كل دقيقة لا بل كل ثانية مع أحمدي النائم
لا أريد لأي أحد ان يضيع من وقتي حتى لو دقيقة
كنت أغلق هاتفي وأعيش عالمي الخاص مع هذا الملاك الصغير
كنت دائما أضعه في حضني قريبا من قلبي وكنت على ثقة أنه يشعر بي
رفضت أن يكون له سريره الخاص
كنت أضعه في سريري واحتضنه وأقرب انفاسي من أنفاسه ما كان يمنعني من الالتصاق به إلا ذلك الجهاز الخاص بالأكسجين كنت أريد أن أعطيه من أكسجيني أيضا، خذ نفسي خذ قوتي خذ كل طاقتي ولكن لا تستسلم
كنت أعرف أنها أيامه الأخيرة وأنه كان يحتضر ومع ذلك أي تغيير بسيط فيه لم أكن اتأخر دقيقة واحدة في إخبار طبيبه عنه
انظر يا دكتور جلده جاف جدا وشاحب اللون
انظر إلى شفتيه مشققتين وفقدتا لونهما الوردي المميز
انظر إلى وزنه لقد بدا اليوم هزيلا جدا
انظر إلى عينيه اااااااااااااه وألف ألف اه على عينيه
الاحمرار يزيد أنه لا يستطيع حتى ان يغلق عينيه وينام في سلام
يا دكتور إنه لا يستجيب معي أتحدث معه ولا يرد ألاعبه ولا يبتسم حتى أناشيد طيور الجنة التي لطالما مللت منها لا يستجيب لها
ماذا لو جددنا تحاليله ما رأيك بمزرعة دم لنتطمأن على وضعه
ينظر إلي الطبيب ولا يستطيع أن يتكلم
هو يعرف أنها أعراض طبيعية لمثل حالته ويعرف أنه في ايامه الأخيرة والأهم انه يعرف ويعي تماما أنى اعرف كل هذا ومع ذلك لا أكف عن السؤال
في مرة من المرات زارني مجموعة من الأطباء يريدون أن يشرحوا لي وضع أحمد
فأصرت الطبيبة أن تلتقط لي صورة مع صغيري وهي الصورة الموجودة في الأعلى
كانت تقول لي علمت أنك تصرين ان يبقى طفلك بين يديك مع صعوبة ذلك بسبب كثرة الأسلاك والأنابيب الموصولة به
ابتسمت وقلت لها أجمل شيء في هذه الأيام الصعبة هو أنني بجواره لا أحد آخر لذلك أريده ان يشعر بوجودي بكل ما اوتيت من طاقة ومشاعر
لا أستطيع أن أفكر لو لحظة ان أتركه او أضعه في سريره ويبقى بيننا نظرات معلقة
فردت علي الطبيبة صدقيني هو بحاجة ان يكون بين يديك واحضانك أكثر من حاجته لتلك الأنابيب والأسلاك
حتى جاء ذلك اليوم الثالث عشر من يناير
لم تستطع النوم تلك الليلة كنت مستيقظا ليلتها بسلام لا بكاء ولا أنين فقط تطلب مني الماء
قضينا ليلتنا الأخيرة معا مستيقظين اضعك في حضني وأسقيك الماء نقطة نقطة
حتى طلع الصباح لاحظت أنك تأخذ أنفاسك بصعوبة
استدعيت التمريض بسرعة وأعطوك المزيد من الاكسجين
وطلبوا مني أن اراقبك
بقيت على هذه الحالة حتى السابعة صباحا غلبك النعاس يا قرة عيني ونمت
لم أستطع النوم بقيت أتأمل وجهك الملائكي حتى أنني التقطت لك فيديو وانت نائم
لم أكن أعلم أنه أخر مقطع لك على هاتفي
وبقينا على هذه الحالة حتى الظهيرة وتشاء إرادة الله بأن يبعث لي أقاربي من الضفة الغربية مشكورين ويزورونني للمرة الاولى والأخيرة
لاحظت انفاسك بدأت تعلو شيئا فشيئا ثم أصدرت صوتا صغيرا ملائكيا بريئا كبراءة وجهك وبعدها توقف كل شيء
توقف قلبك وتوقفت انفاسك الهائجة وتوقف معها كل شيء
صرخت على التمريض بل على العالم بأسره ولكن كان في لحظتها كل شيء قد انتهى
بكيت كثيرا ضممتك إلى صدري همست لك لماذا يا صغيري ألم نتفق على العودة سويا
ألم نتفق ان تكون قويا لأجلي
آه يا أحمد ماذا فعلت بي كيف لي أن اتحمل غيابك
كيف لي أن أنام بعيدا عن حضنك الدافئ
تذكرت سريعا قوله تعالى الذين إذا أصابتهم مصيبة قالو إنا لله وإنا إليه راجعون
قلتها بأعلى صوت إنا لله وإنا إليه راجعون إنا لله وإنا إليه راجعون إنا لله وإنا إليه راجعون يا رب صبرا من عندك يا رب يا رب صبرا من عندك يا رب
بعدها حاولوا أن يأخذوا أحمدي مني رفضت إعطائك أي أحد كنت أريد أن أشبع منك صرت تبرد في حضني شيئا فشيئا غطيتك بالكثير من الأغطية وضممتك أكثر إلى صدري لا أريد ليديك الناعمتين أن تبرد
لا أريد لشفتيك الورديتين ان تزرقا
لا أريد لوجنتيك الجميلتين أن تبردا
ولكن دون فائدة
إنها المرة الأولى التي أفشل في تدفئتك
أخذوك غصبا عني كنت قد تيبست في حضني
كان جسدك الضعيف البارد قد أخذ وضعيته وهو في حضني
صاروا يمددون جسدك ويفكوا تصلبه
ولكنهم لم يستطيعوا أن يفتحوا يدك التي أغلقتها على أصبعي
سحبت أصبعي من يدك بهدوء وكأنني أخشى أن ازعجك فتستيقظ
وبقيت يدك مغلقة يا صغيري
وبقيت يدي أنا وحيدة
رجعت إلى غزة مكسورة حزينة بل مكلومة كنت جثة هامدة إلى جواري طول الطريق لم تنطق بكلمة واحدة
رفعت عنك غطائك وظللت طول الطريق تارة أقبلك وتارة أحضنك وتارة أتأمل وجهك البريء الذي كان يشع نورا بشرتك البيضاء الناعمة الجميلة أصبحت صفراء باهتة اللون يا حبيبي
وصلنا إلى غزة وافترقنا أخذوك يا حبيبي لتغسيلك لا تقلق سيرجعونك الي يا قلبي وسأقبلك واحتضنك لآخر مرة
ثم سيدفنونك في قبرك الصغير ويوارو عليك التراب
سأعود إلى قبرك وسأتحدث معك وسأشكو إليك حزني وما أصبحت عليه حالتي بعد فقدك
سأخبرك كيف كانت ليلتي الأولى بعيدة عنك
كنت أفكر فيك في كل دقيقة كيف سينام طفلي وحيدا في مكان موحش كيف سيتحمل برد الشتاء بدون غطاء دافئ كيف سيتحمل ظلمة الليل الموحشة
لم أستطع النوم يا صغيري ليلتها كنت أحتضن أختك على أنها أنت والله حتى أنني أخطأت في اسمها وناديتها باسمك
أتعلم يا أحمد اليوم عند أذان العشاء كنت أردد مع الأذان كما العادة وقلت دعاء ما بعد الأذان وبدون وعي مني صرت أدعي لك "يا رب اشفي احمد شفاء لا يغادر سقما يا رب نرجع مجبورين الخاطر" ثم لاحظت ما قلت وصمت وغصة كبيرة في قلبي بكيت ودعوت الله لك بالرحمة ولقلبي بالصبر والسلوان
أيها السرطان اللعين انا اكرهك أكره خبثك أكره جبروتك وقوتك حتى في علاجك كنت مرضا
لم أعش مع احمد اي جرعة من جرعات الكيماوي الحارقة ولكني كأي أم كنت أشعر به في كل وقت
كنت ابكي على الأطفال الذين رأيتهم يتألمون من آثار جرعة الكيماوي واقول في نفسي احمد ايضا تألم هكذا
آه يا قلب امه
كلكم كنتم اطفالا صغار اجسادكم هزيلة تساقط شعركم اصفر لونكم ولكنكم كنتم جميلون جدا جدا جدا
يكفي تلك الابتسامة الهزيلة التي تخفي ورائها حجم الوجع الذي عشتموه
حقا هذا ما كان يميزكم مرضى السرطان دائما مبتسمين
أخجل كثيرا من ابتسامتكم من صبركم من معاناتكم من اجسادكم الضعيفة
هذه قصتي مع هذا المرض
لا أذاقكم الله مكروها وحفظ الله لكم من تحبون وأدام الله عليكم ثوب الصحة والعافية
ونصيحتي لكل أم اياك ثم اياك ثم اياك أن تتذمري من بكاء طفلك أو طلباته الكثيرة او سهره لأوقات متأخرة
كم أتمنى أن أسهر مع أحمد لوجه الصباح وكم أتمنى أن يطلب مني أي شيء كم أتمنى أن أسمع منه يناديني من جديد
استمتعي بكل لحظة مع أطفالك وحاولي ان تنظري لكل شيء من جانبه الايجابي
هم زينة الحياة الدنيا فلا تحرمي نفسك منها بالتذمر والصراخ والعصبية
واخيرا لا تنسوني من دعائكم بأن يربط الله على قلبي ويلهمني الصبر والسلوان وأن يجمعني بالقريب العاجل مع حبيب قلبي في جنته بإذن الله وان يكون شفيعا لي يوم القيامة يا رب اللهم امين
