25°القدس
24.61°رام الله
23.86°الخليل
28.09°غزة
25° القدس
رام الله24.61°
الخليل23.86°
غزة28.09°
الأحد 29 سبتمبر 2024
4.95جنيه إسترليني
5.22دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.13يورو
3.7دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.95
دينار أردني5.22
جنيه مصري0.08
يورو4.13
دولار أمريكي3.7

عندما يصير الحب كذبتنا الصادقة

533
533
لحبيب آيت أ صالح

يذهب هذا المقال في سياق رواية الكاتب السعودي عبد الرحمان منيف "قصة حب مجوسية"، والتي عالج فيها مسألة العلاقات الإنسانية، وما تنطوي عليه من تعقيد، فإذا كان منيف تناول قضية الحب بطريقة روائية، فإنني سأعالج نفس القضية من وجهة نظر واقعية، وهي قصة صديق قرر أن يختبر تجربة الحب بشكل عشوائي، وإذا كان الحب هو العنوان العريض لهذه القصة، فإنه ليس كذلك، لأنه لا يمتلك من مميزات الحب إلا الاسم، ولهذا السبب، قررت أن أصف هذه العلاقة بقصة حب عشوائية، باعتبارها ابتدأت بشكل عشوائي، وكل تفاصيلها كانت عشوائية، حتى أن اختيار هذا الصديق لشريكته كان عشوائيا، فلم يكن مبنيا على صدفة جميلة، ولا على لقاء جميل، بل كل ما في الأمر أن بدايتهما كانت على الفايسبوك، وقبل ذلك كان لهما لقاء في ساحة الجامعة لم يكن يكفي ليتورطا في هذه الأكذوبة، وهذا اللقاء لا يستحق أن يُسمى كذلك، رغم أنه يحتل جزء مهما من ذاكرة هذا الصديق، وبعد هذا اللقاء، جمعتهما عدة لقاءات أخرى كلها عشوائية، وبسبب عشوائية هذه القصة، كان من العيب أن تندرج في إطار الحب.

لقد تورط هذا الصديق في علاقة حب كاذبة، لم يكن يملك حيالها إلا أن يمتثل للعبة الحب العسيرة، ولم يكن الكذب فقط هو المؤسس لهذه العلاقة، بل إن المصالح والمطامع كانت لها مكانة الأسد فيها، وعندما يتحدد الحب من خلال هذه الأمور، لا يكون من الحكمة أن نعتقد بأن هناك حب، ومن الحكمة أن نعتبر بأن الحب يمكن أن يكون بمثابة كذبة صادقة، ومن خلال ذلك كان مقبولا أن أصف هذه القصة بالعشوائية، فبقدر ما كانت شريكة الصديق طماعة، وتبحث دوما عن مصالحها في علاقتها معه، بقدر ما كان واضحا أنها لم تكن تليق بتجربة الحب، لأن هذا الأخير يفرض بالضرورة أن نتورط فيه بدون شروط وبدون أسباب، وأن نأخذه على محمل الجد والاهتمام، وأن نفعل حياله كل ما نملك من وفاء وإخلاص، ورغم أن الأمر يبدو صعبا للغاية، إلا أن عيش تجربة حب صادقة وقوية يفرض هذه الصفات.

كان اللقاء الرسمي في الجامعة، وفيها قررا أن تبدو علاقتهما مثل الصداقة، وهي التي قررت ذلك، وحينئذ أدرك أن لديها علاقات أخرى تحتفظ بها، ولأجل ذلك لا تريد أن تظهر بمظهر الحبيبة الخائنة مع أحبائها الآخرين، وهو واحد منهم، فلا يتوانى عن الاستجابة لمطالبها، ولماما ما كانت المسكينة ترفض مطالبه بدورها، وكان يحاول أن يبرر لها عن طريق الكذب بعض المطالب التي كان يفشل في قضائها لها، وكان التأجيل محددا لتبريراته الكاذبة، ولأنه كان يُظهر ثقته فيها، رغم أنه لا يثق فيها، فقد اعتقدت أنه واقع في غرامها. والحقيقة أنه لم يكن يحب أن يمارس معها تلك الكذبة الصادقة، لكنها أجبرته على الخوض فيها، لأنه منذ اللقاء الأول تأكد أنها فتاة لا تليق بالحب، لأنها لا تملك مؤهلاته. وهكذا اضطرت إلى أن تلعب معه لعبة الحب العسيرة، وجعلته يتقن دور الحبيب في حضورها، وفي غيابها يتقن دور المشتاق، وهي لا تعلم أن إحداهن علمته ألا يشتاق، وهو لا يشتاق إلا لأمه.

كان يعلّم نفسه ألا يدمن عليها، وفي غيابها كان يلهو بما كان ينسيه فيها، وقلما يشعر بأنه صار معتادا عليها، لكن الحقيقة أنه معتاد على طريقتها في الكذب، والتي جعلته يتنازل عن نصيبه من التعقل في حضرتها. في كل مواقفه معها تؤكد له أنها لا تليق به، والحق أنها لم تكن تليق به، وبسبب كونهما لا يليقان ببعضهما البعض، قررا أن يلعبا لعبة الحب، واستنتجا في النهاية أن المصالح هي التي تحركهما لا غير، أما المشاعر فتلك مسألة أخرى، والمشاعر لعبة عسيرة، لا تليق بمن لا يبادلها بإخلاص. ولأنهما تقمصا دور العشاق في هذه القصة، فقد أديا أدوارهما على أكمل وجه، لدرجة أن نهايتهما كانت باردة بكل المقاييس، حيث توقفا عن التواصل فجأة، وفي لحظة انتظار من يبادر بالسؤال أولا، ضاعت الأكذوبة الصادقة.

كانت الأكاذيب تأخذ جزء كبيرا في تواصلها ومن وعودها ومواقفها، فكان كل ذلك يؤكد له أنها فتاة لا تليق به وبالحب، وتدفعه إلى أن يخوض معها معركة الحب بكل ما كان يخبئه من شر وكذب، لقد دفعته لأن يكون شخصا آخر في الحب بعدما كان يقدس هذا الإحساس، لقد تغيرت المفاهيم في قاموسه بسبب هذه القصة العشوائية، ولقد أجبرته هذه الفتاة على البحث عن مفردات الشر والنفاق تليق بفتاة تمارس الحب بتفنن وخداع، وهكذا علمته أن يكون ممثلا بارعا في لغة العشق، وأن لا يعطي قلبه بسهولة، وأن لا يثق بسهولة، وأن لا يشتاق أبدا، فدفع بقلبه إلى الضفة الأخرى من الشقاء، وتذكر ما قالته أم محمود درويش على لسانه: تزوج أية امرأة من الغرباء، لكن لا تصدق أية امرأة سواي.

يبدو أن لعبة الحب أعقد مما نتصور، بل إن العلاقات الإنسانية كلها تحمل من التعقيد ما يؤكد على أن الإنسان كائن يستعصي على الفهم، ذلك أنه كائن لا ندرك ما يدور في غياهيبه، وما يجول في نواياه، وهو الكائن الذي يقدر على تقمص الأدوار التي تناسب مصالحه، وهذه القدرة هي التي تجعل من الإنسان شريرا من ناحية، ومن ناحية أخرى كائنا غامضا، يصعب فهمه ودراسته بشكل دقيق، وهذه المسائل هي التي تعقد من القضايا الإنسانية، وهكذا فالعقل الإنساني قادر على احتواء كل هذا الخبايا التي تضفي على الإنسان صفة مختلفة ومميزة عن باقي الكائنات.