في زمن ليس ببعيد وفِي جمعة لم احضرها لانشغالي ببعض شؤون الحياة، ارتقى المنبر الشيخ الاستاذ لنسمه سين، فالتشهير ممنوع ونخشى ان يخرج من يقول: حرام انتقاد الخطباء. بدأ الشيخ خطبته بمقدمة جميلة مرونقة بفنون البلاغة وفيها من السجع والجناس ما يجعلك تنبهر لمنطقه، وبعد أن انتهى من المقدمة، بدأ موضوعه بحديث عن الذنب وكيف ينبغي للإنسان المسلم أن يخاف من ذنوبه، وساق للجمهور حديثاً طويلاً، كانت نهايته محزنة جداً، افضت بشخص نظر إلى امرأة بالموت، فقد قتله الندم من شدة خوفه من ذنبه، وخرج الشباب والجمهور من خطبة وهم متأثرين بالأستاذ الشيخ الحاصل على ماجستير في الشريعة.
وبدأ النقاش كيف لنا أن ننجو ونحن نفعل كل هذه الأخطاء والذنوب، وكيف ستدركنا رحمة الله عز وجل، سمعت القصة منهم، وفوراً كعادتي أخذت الحديث وبحثت عنه في الإنترنت، فوجدت القصة موضوعة لا صحة لورودها، فضلاً أنها تختلف مع ما جاء في القران الكريم، إن الصغائر تزول مع الطاعات والصلوات التي يؤديها الإنسان، ولكن أحد الشباب الذين لم يغبْ عقله خلال الخطبة وكان حاضراً بذهنه وعقله، ولَم يتأثر بدموع الشيخ، أخذ يتسأل كيف لإنسان أن يموت من الندم من فعل صغير جداً، ثم أليس هذه مدعاة لأن يفعل الإنسان الذنوب الكبيرة ما دام أنه سيموت متأثراً بجراح ذنبه، لماذا لا يزني أو يسرق أو يقتل، ما دامت النتيجة واحدة.
سمع الشيخ الأستاذ الدكتور اعتراض الشاب، وبعد إحدى الصلوات، التفت الشيخ إلى المصلين ليتحدث عن صحة ما جاء في خطبته الموقرة، التي أضفى لها القداسة لأنه يتحدث على لسان الرب، لا يفرق بين ما وصلنا إليه وما وصلت إليه الكنيسة من تقديس رجال الدين والوعاظ، وعوداً إلى تعقيبه، قال سمعت أحدهم يتحدث عن خطبتي، وذكر أن ما جاء فيها لا يتوافق مع منطق القران ولا منطق العقل، فأقول له: إنه لا يتوجب علينا أن نعقل كل الأشياء وهذا الدين ولا ينبغي لنا التشكيك فيه، وعلى هذا الشاب أن يعلم أن من لا يعقل نعقله ومن لا يقتنع نقنعه بصورة أو بأخرى، في سياسة لتكميم الأفواه وإسكاتها، تجد هذا في المؤسسات الدينية سواء المسلمة أو غير المسلمة، رغم أن الله تكفل بحفظ كتابه وجعل كل ما فيه مطابق للعقل والمنطق.
لم يكن هذا الحادث الوحيد بل كانت هناك قصص أخرى في أماكن متفرقة، على سبيل المثال أتذكر مرة أن أحد الوعاظ غضب في محاضرته لأنه نوقش في بعض المسائل الاجتهادية الظنية. انتقاد الوعاظ أو حملة الخطاب لا يعني بالضرورة هو انتقاد الدين، بل هو نقد موجه لنوعية الخطاب العاطفي الذي يستغفل عقلية الجمهور ولا يعطي قيمة للعقل، العقل الذي حث الله على تفعيله في آيات كثيرة من القران. ثم نتساءل لماذا وصلنا إلى هذا الحد من الانحدار والمبالغة والخوف من اَي نقد يوجه لنصوص دينية تكلم بها بشر وتحدث عنها إنسان مثلنا لا يفرق عنّا شيئاً سوى أن معدله لم يسمح له بدراسة الهندسة، فدرس الشريعة.
إعطاء الصبغة الإلهية لحديث بشري مشكلة كبيرة جعلت كثيراً من الشباب يشككون بأصول الدين، فالفكرة مهما كانت عظيمة ومقدسة، يبقى أن من يحملها بشر قد يصيب في تبليغها وقد يخطئ، ولهذا واجب على المتصدرين للخطاب الديني التفريق بين ما هو مقدسٌ حقيقة، وبين غير المقدس من اجتهادات البشر وغيرها. أسئلة كثيرة تدور في أذهان الشباب تحتاج إلى أجوبة تقنع العقل وتطمئن القلب، وليس عيباً أن نقول: أننا لا نملك أجوبة عليها، فالمكابرة على أن هذا الموجود بهذه الطريقة مشكلة من مشاكل الوعي التي تعيشها مجتمعاتنا.
ما تقدم لا يعني أنه لا يوجد خطاب يطابق المنطق والوعي، ما زال متواجداً ولكن الغالب في الإعلام والمجتمع هو الخطاب العاطفي المغيب للعقل والمنطق، فالحاجة الملحة لزيادة الخطاب المنطقي لتساهم المؤسسة الدينية في رفع مستوى الوعي في المجتمع، خصوصاً بعد عواصف التطرّف المتكررة على مدار الأعوام السابقة، مما يحتم لمواجهة فكرية حقيقية، يتكاتف فيها المتخصصين في كافة المجالات فأستاذ الشريعة إذا فقه علوم الشريعة، فهو لا يفقه علوم الحياة الحديثة التي تدرس المجتمعات ونفسياتها والتحولات التي حصلت فيها، فكل ما تكاتف أصحاب الاختصاصات سنجد معالجات حقيقية تنقذنا واقعنا وتحل مشاكلنا.