يبدو أن ما كان يقصده محمود درويش لما قال: "لا تعتذر إلا لأمك"، له دلالات عميقة حول مكانة الأم في حياتنا، لعلها الشخص الوحيد في هذا العالم الذي نُدين له بالاعتذار في جميع الأحوال ورغم كل الظروف، ليس لأنها تحملت عناء ولادتنا، أو لأن من واجبها أن تتحمل ما أجبرتها الطبيعة عليه، نحن مدينون باعتذار لأمهاتنا، لأننا لا نملك إلا أن نعتذر لهن. الأم هي الإنسانة الاستثنائية في حياتنا جميعا، والتي تمنحنا الحياة على حساب حياتها. الأم هي الشخص الوحيد في هذا العالم الذي يحبنا حبا خالصا دون شروط، وهي الإنسانة الوحيدة التي تتحملنا في أسوأ حالاتنا، وهي التي تتمنى لو تحمل عنا همومنا وأحزاننا، وتتمنى بكل صدق أن ترانا سعداء، تحزن معنا بعمق وتفرح معنا بنفس العمق، ورغم كل ما تُظهره بعض الأمهات من غضب نتيجة تهور بعض الأبناء، إلا أن هناك في أعماقهن حقيقة مفادها أن الأم لن تتنازل عنك مهما حصل، لقد أجبرتهن الطبيعة على حب فلذات أكبادهن بشكل يتجاوز حدود الحب، ولا يدرك هذا الحب إلا من يشعر فعلا أنه مدين لأمه باعتذار.
لعلني واحد من الأشخاص الذي يهملون أمهاتهم قليلا، وأنا مدين لها باعتذار، وأشعر بالأسف كثيرا حيال ذلك، لقد أجبرتني الحياة على ممارسة بعض الإهمال، ولا أحب أن أكون كذلك، لأن هذا يجعلني أخطئ في تقدير أمي، وربما لم أتعلم جيدا فن التعامل معها بالشكل الذي يليق بها، هذا إذا اعتبرنا أن جميع الأشكال لن تفي بذلك، فما تستحقه الأم يتجاوز كل البروتوكلات التي نمارسها معها. الأم تحتاج إلى اهتمامنا وحبنا ووجودنا، هي تحتاجنا أن نكون معها، تحتاج إلى حضورنا وأن نواجه أزمة الغياب التي نُدفع إليها، كل ذلك من أجل أن لا نُورّط أمهاتنا في ذلك الحزن الذي يُنشأ بداخلهن تجاهنا عندما نغيب عنهن، لأن الغياب يشوش عليهن، ويفرض عليهن حزنا عميقا يُعجل بذبولهن، عندما نغيب بكامل حضورنا داخل قلوب أمهاتنا، وعندما لا نعطيهن أكثر مما يستحقن، سنصير مدمنين على الإهمال بشكل غير مباشر، ونحن لا ندرك بأننا نؤذي من لا يحب أن يرانا تعساء، ونجعل الأم تعيسة بسببنا رغم أنها ستبرر كل شيء لصالحنا.
من الحكمة أن نقدس أمهاتنا، ليس لأن الثقافة والتنشئة الاجتماعية تساير هذا الطرح، لكن يبدو أن العلاقة التي تربطنا بأمهاتنا تبقى عميقة بشكل غريب، ومن المنطقي أن تكون عميقة، فنحن ننشأ بداخلها، قبل أن نخرج منها معظمنا تربطه علاقة قوية بأمه، لدرجة أن لا أحد منا يتصور أن يفقد أمه، نحن نتعلق بأمهاتنا لأقصى الحدود، ونكون مستعدين للتضحية من أجلهن، لكن قانون الحياة لا يساير كل التضحيات، هناك أشخاص فقدوا أمهاتهم، وهناك من سيفقدها عاجلا أو آجلا، هذا هو الواقع، والمثير للاهتمام أن معظمنا سيقبل أن تفقده أمه بدل أن يفقدها، لأن ألم الفقدان، فقدان الأم، لن نبرأ منه بسهولة، إن لم أقل بأنه لن يغادرنا، خصوصا إن كانت علاقتنا بأمّهاتنا تتجاوز كل الحدود، وهنا سيتمنى المرء لو مات قبل أمه، قد يبدو الأمر مشاعري زيادة عن اللزوم، لكني أتحدث من وجهة نظر شخصية، وأعبر عما أشعر به تجاه الانسانة التي ينبغي أن أرتبط بها أكثر من الحياة كلها، وأن أموت من أجلها، وحتى تخيل فقدانها يثيرني بشكل مثير، لكن هيهات على غدر الحياة.
معظمنا نحن الرجال، يحمل صورة عن المرأة، هذه الصورة تحددها طبيعة علاقتنا بأمهاتنا، وتحددها شخصية الأم بالأساس من خلال ما تفعله من أجلنا، هذه الصورة تشكل نوع المرأة التي نسعى لأن نكون معها، فنميل بكل أمنياتنا أن نجد امرأة تتعامل معنا بنفس الطريقة التي نجدها لدى أمهاتنا، وأن نجد لدى هذه المرأة من مميزات أمهاتنا الكثير، وهذا قد يبدو مستحيلا، لكن تلك الصورة التي نأخذها عن أمهاتنا تجعلنا نبحث عن امرأة تناسب تلك المثالية التي نراها في أمهاتنا، ذلك لأننا وجدنا في أمهاتنا ما لا يمكن أن نجده في أي امرأة أخرى، ولهذا تتعقد لدينا المسألة كلما رغبنا في امرأة ما، فلا نجد في تلك المرأة سوى صفات أخرى تبدو أبعد من شخصية أمهاتنا، وهكذا يستمر بحثنا عن المرأة التي تقارب ما وجدناه في أمهاتنا، ونحن ندرك بيقين تام أننا نبحث عن المستحيل. ما يتملكنا صوب الأم يتجاوز ما يبدو لنا من خلال علاقاتنا بها، وقلما ندرك ذلك، أو لعلنا ندرك ذلك متأخرا بعد أن يكون الأوان قد فات، وهنا نسقط في الضياع الأكبر، ذلك الضياع الذي لن ينفع معه ندم، فنتورط في تأنيب الضمير بكل أحاسيسنا، ذلك لأننا لم نُقدّر من وهبنا الحياة.
من الحكمة أن نقدس أمهاتنا، ليس لأن الثقافة والتنشئة الاجتماعية تساير هذا الطرح، لكن يبدو أن العلاقة التي تربطنا بأمهاتنا تبقى عميقة بشكل غريب، ومن المنطقي أن تكون عميقة، فنحن ننشأ بداخلها، قبل أن نخرج منها، ونكون معها أكثر من أي شخص آخر، بل هي التي تكون معنا وتهتم بنا أكثر من أي شخص آخر، وتحبنا حبا صادقا وقويا بكل ما يحمل الحب من معنى، وتشعر بنا بشكل غريب، لذلك من الطبيعي أن تكون الأم في نظرنا هي الحياة، صدقوني ان افترضت أن حتى أسوأ الرجال لا يمكن أن تسمح فيهم أمهاتهم، ويمكن أن أفترض أيضا أنه هو أيضا لن يسمح فيها إذا كان شخصا طبيعيا، فمن يستطيع السماح في أمه، سواء أولئك الذين يعنفون أمهاتهم، أو يطردونهن، أو يرسلهن إلى دور العجزة، هؤلاء الذين يتعاملون مع أمهاتهم هكذا، من الطبيعي أنهم ليسوا طبيعيين، أما الأشخاص الطبيعيون العاقلون فهم يدركون بوعي أنهم مدينون لأمهاتهم باعتذار.
لا تعتذر إلاّ لأمِّكْ، هكذا أنهى محمود درويش إحدى قصائده، ولعله صادق في ذلك، لأن الشخص الوحيد الذي يجب أن نعتذر له هي الأم، أقول هذه الكلمات، لكي أعتذر لأمي عن غيابي، وعن إهمالي الذي أجبرتني عليه الظروف، ولعلني لا أحب أن أمارس هذه القساوة مع أمي، ولا أرى أي مبرر لذلك، ولا أملك إلا أن أعتذر لأمي عن هذا الغياب، ورغم أنها تتفهم ظروفي وانشغالاتي، إلا أن التفريط في الأم بمثابة خسارة لا ندركها إلا حين سيكون الأوان قد فات، ولتجنب تلك اللحظة التي لن يسعنا فيها إلا أن نستسلم لتأنيب ضميرنا، لابد من وضع الأم ضمن الأولويات، ولابد من الاهتمام القوي بها، لأنها لا تستحق إلا أن نحبها ونهتم بها بكل قوة، وبنفس الطريقة التي تُشعرنا هي بالحياة، فما أسوأنا حين نبتعد مجبرين عن الأم! وما أسوأ الحياة حين تُنسينا في الأم!
هذا الولد يا أمي من كثرة ما أحبك، أهملك، ومن بعيد يؤنبه ضميره المنهك بسبب هذا الاهمال، ولعل الحياة علمته الاهمال دون أن يشعر، فبات من طبيعته أن يتصرف على هذا النحو، فاعذريه يا أماه، لأنه يتمنى لو يعوضك عن كل شيء، أعرف أنك ستتقبلين اعتذاري بكل حب، هذا لأنك إنسانة فريدة في حياتي، وأنت دائما في نظري استثناء لن يتكرر. وأنت تعتذر لأمك لا تنسى أن تعتذر لأبيك أيضا، فقد تكون لديه من الأسباب ما يكفي ليمارس قساوته، لكن في النهاية لن تجد بديلا له، ولهذا ينبغي أن نضع له جميع الأعذار. الأب والأم لن يتعوضا أبدا، ولذلك يجب أن يضعهما المرء فوق كل اعتبار. وأنت تعتذر لأمك وأبيك، لا تنسى أن تعتذر لإخوتك، فهم كذلك لن يتعوضوا لك بتاتا رغم أننا أحيانا نلتقي بإخوة لم تلدهم أمهاتنا. وأنت تعتذر من إخوتك لا تنسى أن تعتذر لنفسك، فهي أيضا لن تتعوض، ولذلك حافظ عليها وتمرن أن تكون إنسانا.