هي ليست ساحرة مستديرة تلعب على عشب أخضر ويتناوب عليها أحد عشرة لاعبا موزعين ما بين دفاع وهجوم وخط وسط وحراسة مرمى فحسب. بل هي أخلاق ورسائل نبيلة والحديث عن كرة القدم لا يكتمل إلا بجماهيرها التي تعطي للمباراة متعة ورونقا خاصا. ففي كثير من الأحيان كانت سببا للانتصار كما الهزائم فالجمهور ملح كرة القدم دونه لن تجد لها لونا ولا طعما، بعيدا عن الشغب داخل الملاعب والبحث عن حلول لاجتثاث هذه المشكلة من جذورها وتأكيدا على أهمية التحلي بالخلق الرياضي القويم داخل الملاعب وخارجها يأتي جمهور الرجاء البيضاوي المغربي ليعطي للعالم أجمع نموذجا يحتذى به. رجال من طينة الكبار خرجت عن مكبوتها وأظهرت حساسيتها وعبرت وبشكل صريح عن معاناتها وعن أفكار لا تجرأ عادة عليها. فالملعب هو الرقعة الجغرافية الوحيدة في العالم أجمع التي يجتمع فيها المواطنون بأريحية مهما كان عددهم دون اعتبار ذلك عملا معاديا للدولة.
في بلادي ظلموني" أغنية بمضمون سياسي اجتماعي صدحت بها ألاف الجماهير من الرجاء ووصل صداها العالم العربي فرددوها جماعة. فالأغنية حملت وجعا واحدا من الشام وصولا إلى بغداد ومن نجد إلى يمن فمصر والدار البيضاء فلقد لخصت المصير المشترك وحالة الشباب العربي عامة فالألم واحد وإن اختلفت اللهجة. حناجر جماعية مدوية وهتافات صادقة خرجت عن صمتها ضاقها الألم والحزن ألقت بالحقائق في وجه المسؤولين مرتدية ثياب الصدق لتتجاوز البحار والجبال وتتطوف العالم بأصواتها المتراصة وحركاتها المدروسة كأنها سمفونية لا نشاز فيها. أغنية ولدت في ملعب الدار البيضاء وعاشت في قلب كل من هضمت حقوقه، قصة تحكي شغفا كرويا ليس من السهل أن تفهمه أو تستوعبه. عدل وحرية وكرامة تلكم كانت الرسالة.
شباب إبداعهم لا ينضب فما لبثت الأغنية أن صالت العالم وجالته حتى لحقتها أختها في العمق والجمال. أغنية" رجاوي فلسطيني" أبدعت فيها الجماهير مجددا بجعل المدرجات منصة وعي ومقاومة لدعم نضال الشعب الفلسطيني وتعبيرا صريحا منها بالتشبث بالإرث المقدسي جماهير كفت ووفت وأوجزت فأعجزت، ولأن عشق النسر الأخضر أكبر من أن يحلق داخل الملعب فقط فقد حلق النسر الرجاوي خارج المدرجات وصولا الى شرفة المشجع الرجاوي "السيمو" الذي حال السرطان دون قدرته على الحضور للمدرجات والهتاف بين الجماهير لدعمه نفسيا ومعنويا. لفتة انسانية خطفت القلوب وعبرت الحدود فتغنت بها جماهير القدس وكتبها لاعبوا نادي "أولدهام" على قمصانهم لنستنتج أن كرة القدم أكبر من مجرد لعبة، ففيها تختلط المواقف الإنسانية والخصال الحميدة وهذا ما أثبتته جماهير الرجاء البيضاوي.
تحبس الأنفاس ليس خوفا من هزيمة هذا الفريق أو ذاك وإنما خوفا من مشاغبين وقاصرين همهم الوحيد ترويع الأمنين وإلحاق الأضرار بكل مكان تخطوه أقدامهم
هكذا وحدت كرة القدم الجماهير وبحنجرة واحدة تقتلع الخوف وتلقي بالوقائع عارية مرتدة عن الكذب والنفاق في وجه المسؤولين وفي وجه الحكومات العربية أجمع، هذه الرياضة التي سعت دائما إلى إنتاج قيم أخلاقية نبيلة. ولعل الروح الوطنية لا تخرج للعلن إلا في مباراة للمنتخب أو مباراة لفريق يمثل العلم الوطني ولولا حبهم لذلك العلم لما رسمت تلك اللوحات الفسيفسائية من تيفويات وصولا إلى سمفونيات تشنف الأسماع، لعله تجديد للعهد مع المدرجات إلغاء لكل ما سبق من شغب وعنف داخل أسوار الملعب وخارجه عهد يخط في الكرة المغربية والعالمية من ذهب وماس من جمهور عاهد الله والوطن على الإخلاص والوفاء للراية وللخلق الرياضي النبيل سيذكرهم التاريخ ما ذكر الرجاء فلأجل هؤلاء تلعب كرة القدم. ولأن المؤمن الحق وحده من يف ما عاهد الله عليه عليه فكلاسيكو الرجاء والجيش الملكي أعاد ظاهرة شغب الملاعب إلى الواجهة فعن أي مشهد رياضي احترافي نتحدث؟
مداد كثير سال في الكتابة عن الواقعة وحديث طال عن المشاهد المأساوية ذهب البعض إلى أن الأحداث أصبحت قاعدة بعدما كانت عرفا بين الفرق ذات القاعدة الجماهرية الكبيرة. في ما يرى البعض الأخر تواطؤا أمنيا في الأحداث خصوصا بعد ما أصبح الجمهور الرجاوي صوتا للمنطقة وللشعوب العربية عامة مستدلا بالروح الرياضية والشعارات القوية والهتافات المدوية التي عرفتها مباراة الرجاء والملودية الجزائرية والتي عقبتها مباراة الجيش الملكي والرجاء البيضاوي بالرباط ضمن البطولة العربية، فهل فشل الأمن في احتواء ظاهرة الغضب؟ أم أنها أحداث مفتعلة لحجب الجماهير ومنعها من الشعارات التي اجتاحت جل الملاعب المغربية ووصل صداها للعالم أجمع على غرار الجمهورية المصرية؟
تختلف الآراء والأسباب والنتيجة واحدة مشاهد محزنة ومؤسفة ومخزية في نفس الوقت أم مكلومة وأب أبتر، صورة أرشيفية مشابهة مع كل قمة كروية. تحبس الأنفاس ليس خوفا من هزيمة هذا الفريق أو ذاك وإنما خوفا من مشاغبين وقاصرين همهم الوحيد ترويع الأمنين وإلحاق الأضرار بكل مكان تخطوه أقدامهم. لا نريد تكرار السيناريو مع كل لقاء يكتسي طابع الحدث الرياضي الكروي الأبرز ولا نريد الزحف العمراني الذي تنهجه الظاهرة بانتقالها للشوراع والأزقة بعدما كانت محصورة في الملاعب وحسب. ولعل السؤال الأبرز الذي يطرح نفسه هل الألتراس وحدها من تتحمل المسؤولية؟ وإذا كانت كذلك فمتى تبدأ هذه المسؤولية وأين تنتهي؟ أم أنها مسؤولية مشتركة بين جماهير وقوات أمن وبين أسرة ومدرسة تغرس القيم النبيلة الحميدة في نفوس جيل صاعد حامل لمشعل الكرة المغربية يذكرنا بأمجاد الجماهير التي رحلت من قلب الدار البيضاء إلى مدينة بركان يوما ما لتشييع جنازة لاعب رجاوي وافته المنية. جيل لا زال يتغنى بأغنية شهداء الميلاد مواساة منه للأمهات المكلومات. جيل يروي فصول مجد كروي مغربي بأسلوب متفرد في الوطنية والتضحية وعلى نهجه في الألفة والمؤالفة يسير. فخرا بكل السواعد التي خرجت من رحم المعاناة فتغنت بألآم المخاض فأسعدت الشعب من أجلهم فقط تنحني الهامات ويجف حبر اللغات.
اعلان
تأتي الأحداث كل مرة لتؤكد على أن ظاهرة الشغب والعنف باتت ظاهرة شاذة ترخي بظلالها على السير العادي للمنافسات وتؤرق مضجع دور الجوار أصحاب المحلات والمقاهي المحاذين للملاعب وحتى تلك وسط المدينة. فلماذا يعزف السلام الوطني قبل صافرة الحكم بداية كل مباراة إذن؟ أليس لتوحيد الشيب والشباب الأطفال والنساء الغني والفقير الوزير والغفير فلا فرق بين أحد في عشق الساحرة المستديرة. ولا يمكن لأي كان أن يحرم متيما أو ولهان مساندة وتشجيع فريق يتنفس ألوانه ويتغنى أغانيه في الحل والترحال شريطة التحلي بالخلق الرياضي القويم وجعل الكرة مركزا لتلاقح الثقافات لا مركزا للعصبية والتعصب والجرائم المنظمة التي تصادر الناس أسمى الحقوق التي كفلها الدين كما كفلها القانون وهو حقهم في حياة آمنة ّ،حتى باتت الطفلة تخاف مرافقة أمها والتلويح لأبيها البطل وسؤالها لجدتها الدعاء له حتى يكون دعائها سدا منيعا أمام كل ضربة كرة تلقاها، لا كل حجارة يقذف بها من البعض المحسوبين على الجماهير فالأفة أضحت داء مزمنا في الملاعب الوطنية وعدم استئصال هذا الورم الخبيث يسيئ وبصورة واضحة ومباشرة لسمعة الوطن وسياسته. فكرة القدم خلقت للمتعة والفرجة فهي قبل كل شيء تسامح وإخاء. كرة القدم ببساطة تقرب لا تبعد.
الحل واحد بإجماع الحق والقانون ألا وهو منع دخول القاصرين للملاعب فطبيعة الطفل القاصر تشعره وهو داخل مجموعته أن لا أحد قادر على ردعه ونخص بالذكر القصر المدمنين على المخدرات كما يحتاج الأمر إلى إطلاق برامج للتوعية والتأطير في أوساط الجماهير، مع مواصلة تأهيل المنشآت الرياضية، وإشراك كافة المتدخلين دون إقصاء وعليه وجب إعادة النظر في سياسات أكل عليها الدهر وشرب فمن صنع الإبداع والجمال لا يستطيع صنع العنف والشغب. فلتواصل الجماهير المغربية مسيرها نحو الإبداع في الشكل والإبهار في المضمون. وليواصل المتيمون المبدعون صنع الفرح وقت النكد. ولترفع الرايات بأياد الأوفياء، فإلى متى ستظل شرارة أعمال الشغب تحلق في سماء الكرة المغربية؟ إلى متى سؤال للزمان فأي زمان ينتظر الجماهير المغربية؟