يعتصر القلب الألم والأسى عند رؤية المجازر التي ترتكب في سوريا في مرأى ومسمع من العالم أجمع دون أن يحرك احدهم ساكناً. وعلى قدر حبي لشعبنا العربي في اقطاره المختلفة إلا أن لسوريا وشعبها مكانة خاصة في فؤادي فالنشأة وأجمل ذكريات الطفولة والشباب كانت على ربوع هذه الأرض الحبيبة الغالية. عشت فيها كفلسطيني دون أن أشعر أبداً بأي فرق بيني وبين اخوتي السوريين بل لعلّ طيبة الشعب السوري وشهامته وحسه القومي العالي أشعرتني بالانتماء لهذا الوطن وبأني صاحب البيت فلي الصدارة والترحاب والمحبة. وكان النظام في سوريا منذ أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد يحثّ على اعتبار القضية الفلسطينية قضيته الأولى فتاريخ فلسطين ونكبتها كان جزءاً اساسياً من المنهج الدراسي منذ المرحلة الابتدائية وحتى الجامعية، كما أن إيواء الفصائل الفلسطينية وحمايتها لطالما أشعر الفلسطيني والسوري على حد سواء بنبل النظام في زمن تفشى فيه الغدر والخيانة وتعالت فيه أصوات المصالح الخاصة فوق صوت العروبة. ولطالما طغى هذا الشعور على إرهاب الدولة الفكري وعمليات غسل الدماغ الممنهجة التي مارسها النظام على شعبه منذ طفولتهم كطلائع للبعث إلى شبابهم وكهولتهم كشبيبة للثورة وأعضاء في حزب البعث الحاكم. إلا أن عمليات الترهيب والتخويف في دولة المخابرات حيث لا يأمن أخ أخاه خلقت عند الناس شعوراً بالقهر والمذلّة كما أن استشراء الفساد بين أوساط الفئة الحاكمة زادت الشعب غضباً وتطلعاً إلى خلاص قريب. ولكن النظام استمر في رهانه بأن سياساته الخارجية، ولا سيما تجاه قضية فلسطين، ستكون شبكة الأمان التي ستحميه من السقوط. وبالفعل كانت هذه السياسة متنفساً لغضب الشارع لعقود من الزمن. ومع ذهاب الأب ومجيء الابن انتشرت حالة من التفاؤل العام بين أوساط الشعب السوري وضيوفه من الفلسطينيين وغيرهم بأن زمن الاصلاح قد حان وأن الدم الجديد سيستأصل الفساد ويأتي بالفرج المنتظر. وعلى الرغم من الآمال المعقودة إلا أن الاصلاح كان غير مرض أو كاف لوقف القهر والمذلة وتفشي الفقر بين فئات كبيرة من الشعب. ولكن قيادة سوريا لجبهة الممانعة والتصدي لـ(إسرائيل) وأعوانها حافظت على احترام العرب جميعاً والفلسطينيين على وجه الخصوص. ومع انطلاق شرارة الثورات العريبة توقع الجميع أن تكون سوريا منيعة ضد لهيب التغير لأن النظام سيفهم أن زمان الاصلاح قد حان فهو أذكى من أن يؤجج غضب الشعب بل سيستوعب مطالبهم، والشعب سيقف بجانبه لأنه ما زال يرى فيه خيراً. إلا أن النظام لم يتسم بالذكاء أو العقل والحكمة المرجوة بل جاءت عمليات القتل الممنهجة للشعب الأعزل لتكون نقطة تحول عند الشعب السوري وشعوب المنطقة إذ إن الإمعان في القتل والتعذيب البشع ازال الغشاوة عن العيون وظهر النظام على حقيقته أداة قمع وإرهاب للناس. إنني كفلسطيني أتبرأ اليوم من النظام الوحشي في سوريا، وإذ أفعل ذلك لا أخون العهد مع من مد لنا يد العون والمساعدة لأن الشعب السوري هو من احتضننا وهو شعب عظيم فيه الإيمان والحس القومي متأصل في روحه وكيانه. وإذ ينفض عن نفسه غبار الخوف ويتساوى عنده الموت والحياة لا يسعني إلا أن أقف إلى جانبه وأشدّ على يده في تطلعه المشروع إلى الحرية والمستقبل الأفضل.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.