لأول مرة منذ زمن بعيد لن يردد العرب ما قاله المتنبي ذات عيد مأتمي، وهو: عيد بأية حال عدت يا عيد؟ فهذا العيد تزامن مع مناخات سياسية وعسكرية في العالم العربي مشحونة حتى أقاصيها، وما من شيء بقي على حاله، إلا ذلك السؤال المزمن عن مصبّ هذه الدماء وعن بوصلة الأيام الآتية . وبقدر ما يأتي العيد على غير عادته في عواصم الاشتباك والصراع الحاسم، فهو في بلد كالصومال يأتي كعادته تماماً، بأسماله وجوعه وعدد المرضى الذي يتضاعف كلما تصاعدت وتيرة المجاعة، هذه المجزرة التي لا يراق فيها الدم بل تراق فيها أرواح الألوف من الناس الذين يبيتون على الطوى، رغم أن لهم أخوة لا ينامون باستغراق لفرط التخمة وعسر الهضم بعد وجبات دسمة . ومن يتأمل المشهد العربي بانورامياً ومن مختلف زواياه، يجد أن هناك من الفروق ما ينافس القواسم المشتركة، فلكل شجنه وليلاه التي يبيكها، لأن ما تأجّل من مشكلات عالمنا العربي أدى إلى تفاقم كل الظواهر، وكأن ما تراكم من ذلك المؤجّل تحول إلى حمولة باهظة تقصم الظهر . وإذا كان عيد الفطر بشكل ما فراقاً لشهر الصوم، فهو عناق لما يليه من أشهر، شرط أن تتجاوز المناسبة الكريمة الطقوس الموسمية . لقد عاد العيد بثياب أخرى قد تكون جديدة لتليق بالمناسبة لكنها مبقعة بالدم عند الخاصرة وربما فوق القلب مباشرة، لأن سؤال الحرية لم يعد طيّ الكتمان أو مجرد سطر ضال في قاموس لغوي، فقد ترجل إلى الرصيف والزقاق واختبر إمكانية الإجابة عنه، بعد أن كان لزمن طويل يتيماً وبلا أي رجاء في الإجابة . وقد يرى البعض أن ما كشف عنه الغطاء هو “صندوق باندورا” المملوء بالشرور تبعاً للأسطورة الإغريقية، وإن كان غيرهم يرون أن ما كشف الغطاء عنه هو مستنقع امتلأ بالعطف لفرط الخمول والمراوحة . ومن حق أي فرد أن يقرأ أحداث التاريخ كما يشاء، لكن عليه أيضاً أن يتوقع خيبة الأمل، فالتاريخ له دائماً وجهان وأحياناً وجوه عدة ، لأنه ليس داجناً في جهة ما، ومجراه ليس طيّعاً بحيث يتاح لمن يشاء تغييره أن يفعل . إن عينات من العرب القادمين هي الآن خلف الواجهة، لكن ما تبشر به لا يزال أعظم ممّا أنجز، فالهدم سهل ومتاح لمن يسعى إليه بمختلف الوسائل، لكن البناء هو الأعسر، حتى لو كان هذا البناء بحجارة البيت القديم الذي تحول إلى طلل . ولا يصح على الإطلاق أن يسطو الاختزال على مشاهد مركبة ومعقدة، بحيث يشطرها إلى أسود وأبيض فقط، أو إلى صواب وخطأ، فثمة بعد ثالث لكل ثنائية من هذا الطراز، يتجسد في كل ما ترسب من الماضي وما بدأ يتشكل من الراهن، وإيقاعات التحول لدى المجتمعات أبطأ بكثير من إيقاعات تطور الأفراد، فالمياه العميقة تسير ببطء كما يقول مثل إنجليزي قديم . على أية حال تزامن هذا العيد لأول مرة مع صيام آخر طال زمناً طويلاً ليكون إفطاره وردة وليس بصلة .
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.