أوقف الرجل سيارته على حافة الشارع الذي تم رصفه حديثًا، واتجه بنظره إلى بقعة من الأسفلت تشبه كتل الأسمنت، وكانت تشوه منظر الشارع، لقد نزل السائق من السيارة، وأخذ معه آلة حادة ودلوًا، وراح يحك بقع الأسفلت الملتصقة بالشارع، ويعبئ ما يتناثر منها.
لقد أثار منظر الرجل المهندم إعجاب الناس، فلأول مرة يشاهد سكان معسكر خان يونس للاجئين رجلًا يرتدي ربطة عنق، يترجل من سيارته، ويبدأ بنفسه في تنظيف الشارع من بقع الأسفلت الزائدة، كان ذلك هو الشارع الأول والوحيد الذي يشق مخيم خان يونس للاجئين باتجاه البحر، وكان المشهد مؤثرًا، وترك بصماته على سلوك طلاب المدرسة الابتدائية، الذين كانوا قد خرجوا من المدرسة لتوهم، فإذا بهم أمام هذه اللوحة من العطاء والتفاني، لقد راح طلاب المدرسة يصفقون للرجل المهندم، ويهتفون له، وسط تشجيع الناس لهذه الخطوة الرائدة الرائعة.
لم يقف سلوك تلاميذ المدرسة الابتدائية عند حدود التسحيج، بل اندفعوا بشكل جماعي إلى مساعدة الرجل المهندم، وكنت أحدهم، ورحنا نحن تلاميذ المدرسة الابتدائية نرفع بقع الأسفلت بأظفارنا الطرية، ونجمع ما تتمكن أكفنا الناعمة من حمله، ونضع في الدلو، دون أن نهتم لملابسنا التي اتسخت، والتي لا نملك غيرها، ودون أن ننتبه للشنطة المدرسية التي صارت بلون الأسفلت، وكان كل ما أثارنا في ذلك الوقت هو رضا الرجل المهندم، الذي أعجب بنخوتنا، وفرح لفزعتنا، فتوقف عن تنظيف الشارع، وراح يدخن سيجارة، وتركنا نحن الأطفال نكمل ما بدأه من عمل، واكتفى بتقديم كلمات التشجيع لنا، وعبارات الشكر لقوة أظفارنا.
وبعد أن نظفنا الشارع، جاءت سيارة تحمل عددًا من المسؤولين، كان ينتظرهم الرجل المهندم، لقد راقبوا الشارع، ودققوا بموضع العمل، وهزوا برؤوسهم، قبل أن يغادروا المكان، ومن خلفهم سيارة الرجل المهندم.
لقد اكتشفنا لاحقًا أن الرجل المهندم هو المقاول الذي تعهد برصف الشارع مقابل المال الوفير، وأن بقع الأسفلت كانت تعوق تسلمه باقي المخصصات، فجاء بنفسه كي يرفعها، وكنا نحن تلاميذ المدرسة الابتدائية أداته للتنظيف، لقد قبض المقاول المبلغ المالي، وتركنا نحن التلاميذ لا نجد ثمن الصابون الذي يغسل أيدينا المتسخة، وينظف ملابسنا التي طلاها الأسفلت.
عظيم مأساتنا، أننا بعد عشرات السنين، نكتشف نحن الشعب الفلسطيني بأننا أصحاب فزعة ونخوة، ونقوم بتنظيف الشوارع والأرصفة لحساب المقاول السياسي، المقاول السياسي المهندم، الذي يخرج علينا بالشعارات الوطنية، وخطابات النصر الرنانة، ليخطف تعبنا ودمنا وعذابنا، ويقبض من صاحب العمل المال والمنافع والمكاسب له ولأولاده، ويتسلم بطاقة شخصية مهمة جدًّا، لتفتح له ولعصابته الطرق والحواجز، وتغلق أمام مستقبلنا نحن طرق البحث عن الحرية.