تكلم البعض في أكثر من مناسبة عن أنياب الديمقراطية التي تدافع بها عن نفسها، وتناسوا أنها أيضاً قد تنتحر بهذه الأنياب، ولم يعد صعباً أن تدمر الديمقراطية بأدواتها. أو هذا على الأقل ما يراه الكاتب بول أوبنهايمر وهو يرصد التحولات الديمقراطية في ألمانيا بعد سقوط جدار برلين، ويفوتنا أحياناً أن لكل ظاهرة سياسية حيوية وجهها المضاد “فالظواهر الإنسانية والتاريخية ليست مجرد عملة لها وجه آخر لا يغير من قيمتها أو قوتها الشرائية . ومن تلك الظواهر التخلف الذي غالباً ما يعالج رغم تفاقمه بمناهج تقليدية، وكأنه واقف ولا ينمو، والحقيقة أن للتخلف أيضاً قوانين نمو، كما هو الحال في التنمية والتقدم . وحين يتفشى التخلف في نسيج المجتمع كله ويصبح بنيوياً كما هو الحال في الفساد فإن مقاومته أو حتى محاولة الحدّ من انتشاره لا تصبح ميسورة وأحياناً تتسبب الجراحات الغليظة الهادفة إلى استئصاله بالمزيد من تمدده . أنياب التخلف سلاح مضاد لا يستهان به، فالجهل عندما يصبح بديلاً للثقافة يتسلح بمضادات للوعي . ولا يعود بريئاً أو في درجة الصفر كما يقال . والمثل العربي المتداول عن وضع الهراوات في الدواليب قد تعلقه بثنائية التقدم والتخلف به الكثير من التبسيط والاختزال، فأصحاب المصلحة في بقاء التخلف من أجل استثماره كمادة تاريخية خام لمصلحتهم لا يكتفون بوضع الهراوات في الدواليب، بل يسعون بكل ما لديهم من مهارة وخبرات إلى جرّ الدواليب إلى الوراء، رغم أن رهان إعادة عقارب الساعة إلى الخلف لم ينجح في أي يوم، لأن التغير كما يقال هو الثابت الوحيد في الحراك التاريخي كله، ونحن أحياناً نتورط باختزالات مخلة بأهم المفاهيم، وتسهم الميديا خصوصاً الفضائي منها بتكريس مثل هذا التبسيط، كأن نعامل التخلف باعتباره مرادفاً للأمية، أو أن الشعوب تنجو من التخلف إذا تعلمت فقط، التعليم هو أداة الوعي الأولى لإجراء أي تحول، لكنه لا يكفي لأن أقانيم التخلف تشمل الاقتصاد والمناهج السياسية أولاً . وإن لم تتوافر رؤى بانورامية وشاملة للمشهد كله ستبقى معالجات التخلف موضعية واحادية البعد، وأذكر أن مؤتمراً ذا صبغة أكاديمية عقد قبل سنوات في عاصمة عربية تحت شعار وعي التخلف، فكانت اطروحاته السائدة وغياب المرأة عنه والمعالجات الانشائية علامات أخرى للبرهنة على أن وعي التخلف متخلف، عندئذ لا رجاء أو انتظار لأي خلاص، ما دام الملح نفسه قد فسد . لقد غرز التخلف أنيابه المشحوذة والحادة في لحم ثلث مليار عربي لعقود، وما نشاهده الآن من صراعات مسلحة وحوار طرشان هو من محاصيل تلك الحقبة، التي ترك فيها التخلف كي يتنامى ويتراكم بعزل عن أي رصد، وهذا ما يقال أيضاً عن الفساد الذي بدأ متقطعاً وموضعياً لكنه سرعان ما تمأسس وتحول إلى ثقافة سائدة يوصف بالسذاجة والرومانسية من لم يقبل بها ويحفظ وصاياها عن ظهر قلب . وما يجب التذكير به هنا وانسجاماً مع جدلية الظواهر، هو أن التخلف والتقدم ليسا مفهومية معزولية تماماً، فالتقدم أحياناً ينتج التخلف، ويسعى إلى تكريسه كما فعل الغرب الصناعي بالشعوب التي توجد لديها مناجمه والمواد الخام التي يحتاج إليها، وبالتالي أسواقه، تماماً كما أن الثروة تنتج الفقر وفق جدلية مماثلة . التخلف بعد أن استطالت أنيابه أصبح ينافس أشد الأعداء ضراوة لأوطان وشعوب وثقافات .
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.