مضى أكثر من نصف عام على معركة "سيف القدس" بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والعدو الإسرائيلي.
شهدت الساحة الفلسطينية عدداً من المواقف والتطورات؛ فعلى صعيد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، واصلت حركة حماس مشروع بناء قدراتها العسكرية وتطويرها ومراكمتها كمّاً ونوعاً، ولا سيّما القدرات الصاروخية، والاستخبارية، والجوية (الطائرات المسيّرة)، وعكس الإطلاق المتكرر للصواريخ التجريبية تجاه البحر سعيَ الحركة لامتلاك كثافة نارية عبر سلاح الصواريخ، وزيادة مديات الإطلاق، وتحسين قدرتها التدميرية، بعد أن أثبت هذا السلاح نفسه في معركة "سيف القدس"، إذ نجح الجناح العسكري لحركة حماس "كتائب القسام"، وفصائل المقاومة الفلسطينية، في إطلاق ما يربو على 4000 صاروخ خلال عشرة أيام، في معدل إطلاق غير مسبوق منذ احتلال فلسطين عام 1948، منها المئات سقطت على مدينة تل أبيب المحتلة.
أعلن جيش العدو قبل أيام إسقاطه طائرة مسيّرة حلّقت على ارتفاعات عالية، وصفها بأنها غير مسبوقة، واتّهم حركة حماس بالمسؤولية عن إطلاق الطائرة، وحدّدت مصادر العدو ثلاثة احتمالات لتفسير دوافع حماس لإطلاقها؛ الأول: وهو ما رجّحته المصادر، بهدف استخباري لجمع المعلومات عن مواقع العدو المختلفة، والاحتمال الثاني: أن يكون الدافع تجريبيّاً لقياس القدرات الجوية للحركة من أجل تطوير تقنية الطائرات المسيّرة وتحسينها، والتي أُطلق عدد منها أثناء المعركة الأخيرة، واستهدفت مواقع استراتيجية للعدو، أبرزها منصّات الغاز وموارد الطاقة.
والاحتمال الأخير، وهو ما استبعدته الأوساط الإسرائيلية، أن يكون الهدف هجوميّاً، بحيث تكون الطائرة من النوع الانتحاري، الذي يحمل قنابل تفجيرية.
أدرك العدو أن حركة حماس طوّرت قدراتها الاستخبارية، وأشارت مصادره المختلفة، ومصادر المقاومة اللبنانية (حزب الله)، إلى أن معركة "سيف القدس" شهدت تعاوناً وتبادلاً للمعلومات الاستخبارية بين الحزب وكتائب القسام، ما يدلّل على أهمية العامل الاستخباري في جدول أعمال المقاومة الفلسطينية، بحيث تستثمر المقاومة الوقت والجهد، لتطوير منظومتها الاستخبارية، إلى جانب تطوير قدراتها القتالية في الأسلحة المختلفة، كسلاح الصواريخ والدروع والأنفاق والطائرات المسيّرة وسلاح البحرية، وغيرها.
يرى العدوّ أن جبهة قطاع غزة، بعد نحو نصف عام على وقف إطلاق النار، تعتبر الجبهة الأقل استقراراً، وأن تقديره في أعقاب المعركة تحقيق الردع تجاه حركة حماس والمقاومة في قطاع غزة ثبت عدم صحته، ويعتقد العدو أن الحركة لن تتردد في مهاجمته إذا تكررت عوامل التفجير التي سبقت معركة "سيف القدس"، وتحديداً تجاه المسجد الأقصى والقدس، والأسرى.
بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار، أعلن وزير الأمن الاسرائيلي بيني غانتس، ورئيس حكومة العدو نيفتالي بينيت، أن ما كان قبل المعركة لن يكون بعدها، وربط ملف إعمار قطاع غزة بملف الأسرى والمفقودين الإسرائيليين لدى حركة حماس في قطاع غزة. وبعد ستة أشهر، أقرّ العدو علناً، على لسان نفتالي بينيت، في تصريح متلفز، بعدم الربط بين الملفات في قطاع غزة، وبأن مسار مفاوضات تبادل الأسرى منفصل عن المسار الإنساني، كما اعترف العدو مؤخراً، عبر مصادر إعلامية قريبة من صنّاع القرار الإسرائيلي، أن حماس حصلت على كل ما كان قبل الـ11 من أيار/ مايو 2021 الماضي، بل وأكثر ممّا كان سابقاً، وتمكّنت من تثبيت نفسها كمدافع أول عن القدس والمسجد الأقصى.
وفشلت "إسرائيل" في عزل الحركة عن القضايا الوطنية كالقدس والأسرى، في محاولة لعزلها في قطاع غزة، وهو ما أكدته عدة مصادر، بأن قيادة حماس أرسلت على الأقل رسالتين هدّدت فيهما العدو بانسحابها من وقف إطلاق النار؛ الأولى خاصة بسلوك العدو تجاه الأسرى بعد حادثة نفق الحرية، والثانية لها علاقة بالقدس، عندما أعلنت محكمة تابعة للاحتلال السماح للمستوطنين بأداء طقوس تلمودية، والصلاة داخل باحات المسجد الأقصى، وهما حدثان تراجع الاحتلال عنهما خشية التصعيد والمواجهة مجدداً مع المقاومة الفلسطينية من جهة، وخشية تدحرج الأحداث إلى مواجهة متعدّدة الجبهات من جهة أخرى، في ظل سخونة الجبهات الأخرى مع العدو، إضافة إلى رغبة الحكومة الإسرائيلية بتمرير الميزانية (تمَّ إقرارها قبل أيام) والحفاظ على استقرارها.
على صعيد ساحة الضفة المحتلة، عزّزت معركة "سيف القدس" نهج المقاومة، وبثت فيها روحاً جديدة، وشهدت الضفة مواجهات مختلفة مع الاحتلال، لم تخلُ من اشتباكات مسلّحة، أبرزها اشتباكان مع خليّتين عسكريّتين في القدس وجنين تابعتين لحركتي حماس والجهاد الاسلامي، أدت إلى قتلى وجرحى في صفوف جنود العدو، واستشهاد عدد من المقاومين الفلسطينيين، وسجّل الشعب الفلسطيني في الضفة تضامناً مع قضية الأسرى وتفاعلاً قوياً مع حادثة نفق الحرية.
سياسياً، تراجعت آمال السلطة الفلسطينية تجاه سياسة الإدارة الأميركية الجديدة، وتبدّدت طموحاتها بتبنّي إدارة بايدن مساراً سياسياً يعيد الروح إلى المفاوضات على أساس حل الدولتين، وما حدث هو العكس تماماً، إذ تبنّت الإدارة الأميركية الموقف الإسرائيليّ الذي يكتفي بالعمل على تعزيز التعاون الأمني مع السلطة مقابل امتيازات اقتصادية، ولم تنفّذ أميركا وعدها بافتتاح قنصليتها في شرقي القدس، والتي أُغلقت في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، خشية تأثير هذا القرار على استقرار حكومة نفتالي بينيت، الذي ترغب إدارة بايدن في بقائه، ولا ترغب بعودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم.
تراجعت مكانة السلطة الفلسطينية شعبياً، وطالب أكثر من 70% من الشعب الفلسطيني باستقالة رئيس السلطة محمود عباس، فيما تعزّز التأييد الشعبيّ لحركة حماس ورئيسها إسماعيل هنية، بحسب مراكز الاستطلاع الفلسطينية المستقلة.
تعود أسباب القضم من مكانة السلطة شعبياً ووطنياً، خلال الأشهر الأخيرة، إلى حالة الالتفاف الشعبي حول المقاومة خلال معركة "سيف القدس"، والتي لم تؤدِّ إلى تغيير نهج السلطة السياسي، رغم مساره المغلق، بل استمرت السلطة في سياستها الأمنية تجاه المعارضة السياسية، والتي أدّت إلى حالة احتقان غير مسبوقة بعد استشهاد المعارض السياسي نزار بنات، الذي وُجِّهت اتهامات لأجهزة السلطة الأمنية بقتله تحت التعذيب.
حالة الاحتقان الشعبي تجاه السلطة زادت تدريجياً، بعد قرار رئيس السلطة أبو مازن إلغاء الانتخابات التشريعية قبل عدة أشهر، خشية فوز حركة حماس فيها، ونتيجة حالة الاستقطاب الحاد داخل البيئة التنظيمية لحركة فتح، والتي أدّت إلى تشكيل ثلاث لوائح انتخابية، ولم يقتنع الفلسطينيون بذرائع الرئيس أبو مازن بربط قراره بعدم سماح الاحتلال بإجراء الانتخابات في شرق القدس.
تمرّ السلطة الفلسطينية بأزمة اقتصادية حادة، زادت من الاحتقان الشعبي ضدّها، بسبب الاتهامات بالفساد لمؤسّسات السلطة ورموزها.
حاول رئيس الحكومة الفلسطينية محمد أشتيه استغلال ملف إعمار قطاع غزة، بعد معركة "سيف القدس"، لتحسين إيرادات السلطة المالية، وجال على عدّة دول، بهدف الحصول على أموال الإعمار، ولم ينجح في ذلك.
تخشى الإدارة الأميركية و"إسرائيل" من انعكاسات تراجع شرعية السلطة على الاستقرار الأمني في الضفة المحتلة، والخشية تتعزز مع حالة انعدام اليقين تجاه مستقبل النظام السياسي الفلسطيني ما بعد الرئيس الحالي محمود عباس الذي يبلغ من العمر 84 عاماً، وتشهد حركة فتح صراعاً خفياً على خلافته، ما يفتح الساحة الفلسطينية على سيناريوات مختلفة، لا تخلو من سيناريو الفوضى والفلتان الأمني، الذي سينعكس حتماً على "إسرائيل"، وقد يدفع إلى تسخين ساحة الضفة المحتلة تجاه الاحتلال.
تسعى الإدارة الأميركية لمعالجة البيئة السياسية الهشّة للسلطة الفلسطينية، من خلال طرح تأليف حكومة فلسطينية جديدة تتمتع بقبول حمساوي، حتى تتمكن من تحقيق الاستقرار في الضفة، والإعمار في غزة، وهو الخيار الذي رفضه الرئيس محمود عباس، ولم يُعرض على حركة حماس.
بعد مضيّ نصف عام على معركة "سيف القدس"، تمسّكت حركة حماس والمقاومة الفلسطينية بمواقفهما، وتستمران في مشروع الإعداد والتجهيز ومراكمة المقدرات العسكرية، وتعززت مكانتهما الاستراتيجية في البيئة الفلسطينية والإقليمية، بينما تراجع العدو عن مواقفه، ولم يحقق الردع المنشود تجاه جبهة قطاع غزة، وتعيش السلطة الفلسطينية مرحلة استنزاف سياسي وشعبي ووطني، بينما تسعى الإدارة الأميركية لإنجاح مسار خفض التصعيد وتحقيق الاستقرار في الملف الفلسطيني، في إطار سياستها العامة تجاه الشرق الأوسط.