ثورة على الإنسان.. من المعلوم سلفا أن الثورة الصناعية الأولى ركزت على الميكانيكا فأنتجت الآلات سيما المحرك البخاري وآلة النسيج، ثم جاءت الثانية فركزت على مصادر الطاقة فأنتجت الكهرباء والوقود الأحفوري، أما الثالثة فكان تركيزها على زيادة الإنتاج فأنتحت الحاسوب "الرجل الآلي" (الروبوت) وصولا إلى الثورة الرابعة فعرفت بإنترنت الأشياء وتعليم الآلة فطغت على ما تبقى من وجود الإنسان في الحياة الصناعية.
أما الثورة الصناعية الخامسة فمازالت حديثة العهد، ومازال الخبراء والباحثون يرقبون بوصلتها ويتوقعون أي منحى ستنحو، لكن الثورات السابقة كلها كانت ثائرة على وجود الإنسان في ميدان الصناعة، فتجد له بديلا وتقضم من حيز وجوده ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
تنبؤ.. هل يصيب الحقيقة؟
قبل 4 سنوات من الآن كنت أدير جلسة نقاشية مع رئيس الجامعة العالمية الإسلامية بماليزيا حاليا البروفيسور ذو الكفل بن عبد الرزاق، وكان في النقاش عن التنمية البشرية. فقال الرجل في تلك الجلسة إن الثورة الصناعية القادمة آتية بالإنسان مرة أخرى إلى الميدان الصناعي ومستعيدة له وضعه ومكانته التي طغت عليها الثورات السابقة، فقلت حينئذ: هل الأيام القادمة بلا أجهزة ذكية أو مذكاة وإنترنت وما إلى ذلك؟ فرد الرجل: بل هي موجودة لكن على قلة وتدين تلك القلة بإدارتها وقيادها للإنسان، وهذا تقريبا ما يجمع عليه الباحثون والمتوقعون هذه الأيام. فعلى سبيل المثال: يرى خبير الذكاء الصناعي ياسين آل طه أنه -وفقا للثورة الصناعية الخامسة- سننتقل من حقبة الذكاء الصناعي إلى حقبة الذكاء الهجين أو الجماعي، ويرى غيره من المتوقعين العودة القوية للعنصر البشري مثل وزير التعليم العالي المصري خالد عبد الغفار وعصام العمار من جامعة الملك سعود.
رجع الإنسان فما الذي سيختلف؟
لعل ما سيدور في أذهان الكثير: ماذا بعد عودة الإنسان وانخراطه في البيئة الصناعية، هل سيكون أداؤه أكثر جدوى من تلك الأجهزة الذكية التي جاءت بها الثورات السابقة لتكون منافس الإنسان الذي لا تملك روح المنافسة وعواطف الإنسان. في الحقيقة، إن هذه الأجهزة ستبقى ولكن تحت إدارة الإنسان وسيطرته، بحيث يكون هو العامل الرئيس والمدبر لها، وفي هذه الحالة سيكون الإنسان هو المستفيد الأكبر على أكثر من صعيد ليس أقلها استعادة مكانته وتوفير فرص عمل وحياة كريمة لكثير من الكفاءات المتعطلة.
الثورة الخامسة ستعود بالإنسان عقلا وعاطفة
عودة الأيدي والعقول البشرية إلى الإطار الصناعي تعزز دوره في زيادة مساهمة الصناعة في المجتمعات من حيث زيادة فرص العمل، واستخدام تكنولوجيا جديدة لتوفير النمو، مع التقليل من التلوث والاهتمام بالنظام البيئي وتقليل الظواهر الضارة به مثل الاحتباس الحراري والتصحر ونقص مخزون المياه الصالحة للاستهلاك وإعادة تدوير المواد والاستفادة منها، وذلك ما لا تملكه تلك الأجهزة والآلات المبرمجة على زيادة الإنتاج وتضخيم الثروات دون النظر إلى الثمن ومن سيدفعه.
الموبقة التي اقترفتها الثورة الصناعية الرابعة
لعل أكبر موبقة اقرفتها الثورة الصناعية في حق البشرية، وبعيدا عن الأرزاق وفرص العمل التي أصابها التصحر، فإن التصحر الفكري والجمود العقلي يعتبر هو الموبقة الكبرى والداهية الدهماء، التي جعلت الإنسان مستقبلا مستهلكا للمعرفة، فلم يعد يستخدم عقله ومهاراته التي وهبه الخالق إياها، فأصبح يسير في طريقه مهتديا بتطبيقات الأقمار الصناعية، فلا يحتاج تذكر طريق الذهاب ولا العودة، كما أصبح يحسب كل ما يريد من خلال الحاسبة الإلكترونية، وليست نهاية المطاف عند القواميس الإلكترونية، بل أصبح أي سؤال يحتاج مثقال حبة من تفكير يعد معجزا ولا منقذ منه إلا سؤال محرك البحث غوغل، ثم يكون المرء عرضة للغث والغثاء من المعلومات مجهولة المصدر سواء صحت تلك المعلومات أم سقمت.
تعتبر الخامسة وفقا لإجماع المتوقعين، وربما الآملين، ثورة توازن بين الجانبين العلمي والإنساني، حيث من الممكن أن تتميز الثورة الصناعية الخامسة بإبداع وإحساس غير مسبوق، ولذلك ستشهد توسعا في المساحة المتاحة لعالم الابتكار واللمسة الإنسانية.
هل ستفي الثورة الصناعية الخامسة بآمال وأمنيات العطاش إلى إنسانية الإنسان وآدميته فيما حوله من المنتجات ونفسه في ميدان الصناعة، أولئك الذين يتضجرون من التكنولوجيا الصلدة الجامدة؟
نرجو أن تفي بكل تلك الآمال.