كان رائد الدخيل على يقينٍ تام، منذ اللحظة الأولى، يوم الثلاثاء الماضي، أن نجله محمد من بين المقاومين الثلاثة الذين سقطوا شهداء باليوم ذاته في عملية الاغتيال التي نفذتها وحدة "اليمام" الإسرائيلية الخاصة في قلب حي المخفية بمدينة نابلس، شمال الضفة الغربية. واستهدفت العملية المقاومين الثلاثة من "كتائب شهداء الأقصى" أشرف المبسلط وأدهم مبروكة ومحمد الدخيل، ما أدى إلى استشهادهم على الفور.
"فور أن أبلغوني بحصول عملية اغتيال لشبّان في نابلس، ترحمت على ابني محمد. إنه قلب الأب، تماماً كقلب الأم، والذي يشعر بأي خطر يداهم أبناءه. أنا أعرف، ومحمد كان يعرف، أن هذا هو مصير من يسير في هذا الطريق: إما النصر أو الشهادة، وقد كان ينتظرها ونالها"، هكذا يقول الأب المكلوم، في حديث لـ"العربي الجديد".
وارتقى الدخيل (22 عاماً)، برفقة أدهم مبروكة (28 عاماً)، الملقب بـ"الشيشاني"، وهما على قائمة الاستهداف الإسرائيلي، ومساعدهم أشرف المبسلط (21 عاماً)، الذي لم يكن مطارداً، بنيران وحدة خاصة إسرائيلية دخلت إلى منطقة رفيديا في قلب مدينة نابلس، وفي وضح النهار، بسيارتين حملتا لوحتي تسجيل فلسطينية، وأطلق أفرادها أكثر من 80 رصاصة باتجاه الشبان، ما أدى إلى استشهادهم على الفور، ومصادرة السلاح الذي كان بحوزتهم.
ويقول والد الشهيد الدخيل: "لقد تشّرب ابني العمل المقاوم، فقد كبر على ذكر فضائل عمّه الذي حمل اسمه (محمد حسن الدخيل)، الذي استشهد في 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2000، وكان عمر ابني حينها 8 أشهر فقط. ونحتفظ لابني بصورة حين كان في الخامسة من عمره وهو يقف إلى جانب مقاومين في نابلس، ارتقى معظمهم شهداء لاحقاً".
انخرط الدخيل بقوة في العمل العسكري عقب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في مايو/ أيار الماضي، وكانت أولى عمليات إطلاق النار التي نفّذها رداً على اغتيال الاحتلال للمقاوم جميل العموري في يونيو/ حزيران الماضي، في مدينة جنين، شمالي الضفة، إذ كان صديقاً مقرباً منه.
وبالكثير من اللوعة، يقول الأب: "هذا طريقه الذي اختاره، لم أمنعه، لكنني كنت أحذره دائماً من الاستدراج: إن جاءك اتصال أنهم وجدوني ميتاً في مكان ما، لا تأت، لا تصدق كل معلومة تصل إليك".
وكان الأب هنا يعلّق على ما قيل إن المجموعة المقاومة التي تعرضت للاغتيال، أول من أمس، جرى استدراجها للمكان الذي وقعت فيه العملية.
اغتيال مرتقب في نابلس
يشير والد الشهيد الدخيل إلى أنه تلقى قبل يومين فقط من استشهاد ابنه مكالمة هاتفية من ضابط في جهاز استخبارات الاحتلال الإسرائيلي (الشاباك)، عرّف عن نفسه باسم "أنور". ويقول الأب: "أبلغني بأن ملف ابني الشهيد أصبح لدى فرقة اليمام من أجل تصفيته".
وقد تلقى الشهيد أدهم مبروكة (الشيشاني)، أيضاً، مكالمات عدة من ضباط في "الشاباك"، طلبوا منه فيها تسليم نفسه، إلا أنه رفض. وخلال المكالمة الأخيرة، توعدّه الضابط الإسرائيلي باغتياله. وتقول والدة الشهيد أدهم لـ"العربي الجديد": "أخيراً، لم أكن أراه كثيراً، لكنني كنت أدعو له دوماً بالحفظ والسلامة".
ملاحقون من السلطة
لكن ملاحقة الدخيل لم تكن من الاحتلال فحسب، بل من السلطة الفلسطينية أيضاً، وبدأت قبل نحو عامين عندما اعتقل لديها بتهمة إلقاء عبوة ناسفة باتجاه برج عسكري إسرائيلي في جبل جرزيم بمدينة نابلس. حينها، تعرض الدخيل للضرب والشبْح (أي وقوف أو جلوس المعتقل في أوضاع مؤلمة لفترة طويلة).
وبعد خروجه، ازداد إصرار الشهيد على مقاومة الاحتلال، حيث انضم إلى ما بات يعرف بـ"خلية نابلس"، التي تضم شباناً في مقتبل العمر، كانوا يحاولون إحياء "كتائب شهداء الأقصى"، الجناح المسلح لحركة "فتح"، التي أعلنت السلطة الفلسطينية عن حلّها وتسليم عناصرها أسلحتهم عقب الانقسام الفلسطيني في عام 2007.
ومنذ ذلك الحين، ظهرت خلايا مقاومة عدة في نابلس وجنين وفي مدن أخرى من الضفة، ونفذت عمليات مسلحة ضد أهداف لجيش الاحتلال والمستوطنين، ما جعلها في دائرة الاستهداف الإسرائيلي الذي تمكن من قتل واعتقال أفرادها، فيما اعتقلت السلطة آخرين، لا يزالون في سجونها منذ سنوات.
وعلى الرغم من أن الشبّان الثلاثة كانوا ينتمون ظاهرياً إلى "فتح"، إلا أنهم تعارضوا معها فكرياً، خصوصاً في ما يتعلق بالعمل المقاوم والمسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي، ما جعلهم عرضة للملاحقة من أجهزة الأمن الفلسطينية التي اعتقلت الدخيل، وأيضاً مبروكة الذي أمضى نحو عامين في سجون السلطة، وتعرض هو أيضاً للتعذيب الشديد.
وتؤكد مصادر محلية أن الشهيدين الدخيل ومبروكة لم يتلقيا أي دعم من أي جهة، وأن محمد الدخيل باع بندقيته مرّة، واشترى أخرى بثمن أقل، ليوفر بعض المال للخلية التي ينتمي إليها.
ودخل الدخيل ومبروكة في مواجهة مباشرة مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي اعتدت على جنازة الشهيد جميل الكيّال، الذي اغتالته قوات الاحتلال في نابلس يوم 13 ديسمبر/ كانون الأول 2021، بإطلاقها الرصاص وقنابل الغاز باتجاه المشيّعين، فرد المسلحون على ذلك، ما زاد من الهوة بين الطرفين.
السيناريو ذاته تقريباً تكرر مع الشهيد مبروكة، لكن بصورة أشد، خصوصاً على صعيد ملاحقته واعتقاله لدى الأجهزة الأمنية الفلسطينية بتهمة حيازة السلاح غير المرخص ومعاداة سياسات السلطة. وبعد الإفراج عنه من قبل أجهزة السلطة، لاحقه الاحتلال الإسرائيلي، واعتقله أيضاً لاحقاً.
وتقول والدة الشهيد مبروكة لـ"العربي الجديد": "لقد تأذى كثيراً من السلطة، حبسوه وعذبوه، لكن ابني لم يكن يعتبرهم أعداء له، وكان يقول لي دائماً إن عدوي هو الاحتلال، وبالفعل فقد وجه نيرانه باتجاهه".
وتقول عائلة أدهم مبروكة إنه أمضى ثلاث سنوات في سجون الاحتلال، ومثلها في سجون السلطة، وعاش بكتف مخلوعة نتيجة التعذيب.
التفاف فلسطيني لتشييع الشهداء
في مشهد غاب طويلاً، خرج ما لا يقل عن 10 آلاف فلسطيني، ومعهم نحو مائة مسلح، معظمهم مكشوفو الوجوه، في وداع الشهداء الثلاثة، حيث امتلأ ميدان الشهداء، وسط مدينة نابلس، عن بكرة أبيه بالمشاركين الذين جاؤوا من مختلف مدن الضفة الغربية. وأطلق المسلحون النار في الهواء بكثافة غير معهودة استنكاراً للجريمة ورسالة للاحتلال بأن الرد قادم لا محالة.
وتلاحق الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة رايات "حماس" وتصادرها وتعتدي على من يرفعها
وخلال تشييع الشهداء، تعرض عناصر من الأجهزة الأمنية الفلسطينية بلباس مدني لشاب كان يحمل راية خضراء (راية حركة "حماس")، وأجبروه على إنزالها بعد ضربه أمام الجماهير المحتشدة، الأمر الذي لاقى استنكاراً كبيراً.
وتلاحق الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة الرايات الخضراء وتصادرها وتعتدي على من يرفعها، وتمنع مواكب استقبال الأسرى المحررين من سجون الاحتلال إذا كان المفرج عنهم محسوبين على "حماس".
وأعاد مشهد اغتيال الشبان الثلاثة التذكير بعمليات سابقة نفذتها قوات الاحتلال بحق مقاومين، من بينهم ثلاثة من قادة "كتائب شهداء الأقصى" في نابلس عام 2009، هم رائد السركجي وغسان أبو شرخ وعنان صبح، بعد اتهامهم بقتل مستوطن.
وقبل ذلك، استهدفت قوات الاحتلال خلايا تابعة لـ"كتائب القسام"، الجناح المسلح لحركة "حماس"، وأشهرها المجموعة التي كان يقودها الشيخ يوسف السركجي ومعه خمسة آخرون، حيث جرى اغتيالهم في شقة بنابلس عام 2002. وقصف الطيران الحربي الإسرائيلي مكتباً إعلامياً تابعاً لـ"حماس" بنابلس في يوليو/ تموز 2001، وراح ضحيته 11 شهيداً، على رأسهم القياديان البارزان في الحركة جمال منصور وجمال سليم.